مقالات الرأي

لا تغادر المكان إلا و أنت شخص آخر!

يوسف الحسني

وقرت بخاطري رغبة زيارة جنة من جنان الأرض منابع أم الربيع ،وما العيب في عدم وصفها بجنة الارض؟ أليس خرير الماء و نضارة خضرة الشجر و النسيم الطيب أشياء من سمات الجنان إبتسم !أنت في الوادي، الذي يدخل فيه المرء محملا بأثقال الدنيا ،ويخرج منه خفيف الظل مرتاح الخاطر، قنوعا، عاشق ،مطبعا حتى حين ببساطة أهاليه إن هو اخلص النية لله ..
اليوم الأول :
أدركنا الليل بالوادي،لا نلوي على شيء غير قوت و شربة ماء،ونحن على متن القنطرة فوق النهر، فطن ميلود من متاعنا بحدس تجربته أننا بصدد البحث على مكان يأوينا، و مستقر نرمي به جثثنا الصلصال، التي نال منها العياء. ظل الأمازيغي الحر يتنقل بنا من موضع لاخر..لم يدع رقم هاتف إلا ورن عليه..لم يترك منزلا إلا طرق بابه..وكلما إعتذرنا له بادرنا بالقول “أنا راني جوال ولمجال ميحس بقيمة الرجال “.
الليل هادئ والسماء مزينة كجل الليالي الربيعية بعقود النجوم الماسية المختلفة الأشكال ،هلال العيد يتراءى من علياء السماء ،وخرير المياه لا زمة رئيسية للمكان لا محيد عنها..بعدما لم نجد ناحيته من مكان شاغر للمبيت ،سلمنا لصديقه الأمازيغي الجندي من جنود الرحمان..رجل خدوم لا ينطق لسانه غير بمرحبا.. يا مسهل.. يا كريم يا رحمان ..
إنتهى بنا المطاف بعد طول بحث بالمبيت في عشة. كون المآوي السياحية إمتلئت عن أخرها بالزوار.إنزعجنا بادئ ذي بدء، لكن سرعان ما آنست أرواحنا الموضع ،حتى شقت علينا فيما بعد المغادرة لما نسجه بنا الفضاء من شعور السكينة.رفض صديق ميلود الذي صاحبنا أن ننقده اجر الخدمة مجيبا :”ليس كل شيء يقابله مال “دعوة صادقة لله تكفي.
لا تغادر المكان إلا وأنت شخص أخر!
اليوم الثاني: شق نور الصباح كبد السماء ،كاشفا عن عورة الفضاء الذي يحوطنا، فزادت الدهشة من المنظر الخلاب للعقول .كانت ليلى ذات الخامسة عشرة ربيعا،قد إستيقظت قبل بزوغ الشمس لتكنس المواضع وتفرشها .فيما دبت حركة صيادي سمكة “التروتة” الذين إصطفوا على جنبات النهر .شكرت للفتاة شاي الليلة ،والتمست منها تهيئ آخر مشبشب ،إبتسمت بوجه وضاء مبشر ،و أجابت بمرحبا.ما أحوج البلد لجديتك وحيائك الاستثنائي يا ليلى !
عندما وصلت صينية الشاي ، كانت روحي قد فنت مع الشجر والماء ،و الغدير نتيه تسبيحا في ملكوت الرحمان . إذا كانت جنتك بالأرض متعة..فكيف تراها جنة الفردوس الأعلى يا غفار ذو العرش المتين..
لا تغادر المكان الا وانت شخص أخر!
أنعم الله علينا بمنزل أعلى التلة بثمن زهيد ، يلزم بلوغه صعود درج ترابي طويل .عندما وصلنا قبيل الزوال وجدنا حسناء عاكفة على تنظيف الباحة، وما إن لمحتنا حتى جاءت على إستحياء تسلمنا المفاتيح، وكالعادة ، قوبلنا بتحية وتسليم وسلام.دخلت البيت الجبلي ، غرفة النافذة تطل على كرمة عنب ،وفرن طين أبيض، وجبل شامخ يتنفس إكليلا.خلف الباب، جبل أخر مقابل لا يقل شموخا على الجانب من تحته نهر أم الربيع .الخضرة تحوطك من كل زاوية.أنخنا قليلا لنستريح وما هي إلا لحظات أخذنا وضوءنا و قصدنا المسجد للصلاة .كانت الزحمة على أشدها..لم يتسع المكان لولوج كل المصلين ، في خطبته المقتضبة إستطاع الفقيه بكلمات لها حجية، أن يثلج الخواطر ويهذب النفوس، .إستهلها بمنزلة الاحسان للوالدين موردا حادثة الرجل الذي أغضب والديه ومضى يرنو جهادا فلم حدث الرسول الكريم بذلك، طلب منه أن يرجع للبيت ويكرم مثواهما.. ، تلى فقيه الوادي خطبته بالحديث عن مظاهر الرحمة بالمرأة و العباد والحيوان في سلوك رسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم..
لا تغادر المكان إلا وأنت شخص أخر !
تركت المكان لعائلة طنجوية تقية ،بعدما أعجبهم الموضع ذاك .إستغرب الرجل ودهش من ذلك..فعقبت !شممت فيكم رائحة أهل طنجة الكرام و البوغاز كريمة بضيوفها ،وأقل شيء يمكن تقديمه لهاهو إكرام أهاليها..ولو بشيء بسيط ضحك ضحكة طنجاوية أصيلة وصاح” فيفا الخوا”
لا تغادر المكان إلا وأنت شخص أخر !
طلبت من حمو إعداد طاجين ريثما اعود من جولتي المعتادة، وبينما أنا واقف باحد الزوايا لفت إنتباهي فتاة تعلو النضارة طلعتها .يطلبها شاب بيضاوي للخطبة ملحا بأعلى صوته، وهي تعتذر أن لا رغبة الله اليوم ..قبل أن تتقدم بعض برهة سيدة أخرى لنفس الموضوع لست أبالغ! ..قال لي حمو أن جارته ذو رزق عظيم في عروض الزواج، لكنها تعتذر كل مرة عن ذاك اولا لصغر سنها ولانها بصدد إتمام الدراسة ..

لحمو عشة بزاواية بانورامية جميلة ..فضل الرجل الزواج والاستقرار وطلب الرزق بما تجود عليه الطواحين اللذيذة المذاق ،يشعرك الرجل أنك وسط أهلك و ذويك .سألته إن كان لا يفكر في الهجرة قال أن ليست له رغبة بذلك وأنه غير قادر على التضحية بسعادته وهنائه لاجل زحمة و توترات المدينة ..ومن ذا الذي يزهد بالجنان يا حمو !
لا تغادر المكان الا وانت شخص أخر!
اليوم الثالث:
لا يتسع المجال لسرد كل التفاصيل، هي تجربة خاصة في جنة من جنان المغرب العظيم والجنان مهما وصفتها لن تفيها حقها ، تتطلب مكوثا ..وصبرا لتأنس روحك المكان فكل مرة يرجع المرء للوادي يحس أنها المرة الاولى التي يزوره فيها ، ومتى أذن الله له بالخروج يخرج آمنا ، بمشقة نفس لتعلقه الشديد به ، ويغادره وقد غسل خرير ماء مربيع ما علق بروحه به من الشوائب ..حتى إذا عبرت البوابة بالمنعرج الغابوي أحسست أن الشخص الذي دخل بداخلك مجيئا قد صار أخر عند المغادرة.
عشة حمو -منابع أم الربيع -المغرب العظيم.

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق