آخر

أكاديميون يتقصون النبوغ المغربي و”تمغربيت” من خلال سيرة عبد الله كنون

د، محمد عزيز الطويل

في بادرة ثقافية متميزة، وتكريسا لثقافة الاعتراف برموز علمية وثقافية وأدبية وسياسية، قدمت الكثير لمدينة طنجة والوطن ككل، وفي إطار ما دأبت عليه مؤسسة طنجة الكبرى للعمل الثقافي والاجتماعي والتربوي والرياضي بمعية شركائها، من تنظيم أنشطة مختلفة خلال شهر رمضان تحت مسمى رمضانيات طنجة الكبرى في نسختها الثالثة، وقد كانت ساكنة طنجة يومه الثلاثاء 18 مارس على موعد ماتع، للوقوف على تراث العلامة عبد الله كنون رحمه الله.

وتميزت الندوة بحضور كل من السادة الأفاضل الدكتور مصطفى الغاشي عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، والباحث المقتدر في التاريخ امحمد جبرون، ومصطفى بوجمعة نائب العميد المكلف بالبحث العلمي والتعاون. إلى جانب ثلة من المهتمين بتاريخ وتراث مدينة طنجة.

وفي معرض مداخلته أبرز امحمد جبرون أهمية هذه الندوة التي تقوم على عدة اعتبارات، أبرزها أن شخصية المرحوم عبد الله كنون تعد من معالم ذاكرة مدينة طنجة، وأن إبراز الرموز واستحضارها هي رسالة للأجيال، فكيف نقبل ان نجد في كل مدينه مثلا بإسبانيا شواهد متعددة عن الشخصيات الإسبانية في حين أننا نزخر برموز وشخصيات عالمة، ولكن لا نقف على أثر لها في الواقع، كما أن هذا الاستحضار مرتبط بسؤال من نحن؟. فشخصية المرحوم عبد الله كنون لها افضال كثيرة على مدينه طنجة، فعندما كانت طنجة تحت النظام الدولي كانت خلاله الحركة الوطنية محاصرة، وكنون كان مرتبطا بالحركة الوطنية ومنخرط في مشروعها دون حسابات ضيقة حزبية كانت او سياسية. فمن الصعب وضعه ضمن إطار سياسي واحد، بل إنه يتموقع ضمن اطار اوسع وهو اطار الحركة الوطنية المغربية، فاذا تحدثنا عن ماضينا لن نجد افضل من هؤلاء: سياسيين وعلماء ومفكرين وادباء ورجال حركة وطنية، فالأمر لا يقف فقط عند مجرد الاحتفاء بهم وتسمية الشوارع والمدارس باسمهم، بل ان الامر يتطلب استثمارا اكبر. ويبين جبرون أنه حاول من خلال تقديمه ابراز اهميه شخصيه عبد الله كنون وتتبع سيرته.

فسيرة المرحوم عبد الله كنون في مجملها هي سيره معاناة الإنسان المغربي والوطنية المغربية والروح المغربية، وأول ما نقف عنده هو سؤال الهجرة. فهجرة أسرة عبد الله كنون من فاس الى طنجة، او بشكل عام الأسر العلمية بفاس، فهذه الاسر العلمية كانت تؤمن باستحالة الاقامة في بلد يحكمها النصارى أو تقع تحت سيطرته وتسييره، حيث خرجت العديد من الأسر العلمية نحو مناطق لم تصلها السيطرة الاستعمارية الفرنسية آنذاك، والأسرة الكنونية قررت الهجرة نحو المشرق وليس طنجة في البداية، فطنجة كانت نشيطة على مستوى النقل والملاحة البحرية من خلال ما كانت تتيحه البحرية البريطانية بجبل طارق في التنقل نحو المشرق العربي وهذا يعني امرا واحد وهو عدم القبول بواقع الحماية، غير أن ظروفا وسياقات أرغمت الأسرة الكنونية على الاستقرار بطنجة، والامر لم يكن هينا فالهجرة والتخلي عن الأملاك والأهل والأصدقاء أمر صعب، وفي البداية وجد المرحوم عبد الله كنون نفسه منخرطا في الخلايا الأولى للحركة الوطنية الى جانب شباب وعلماء آخرين من أمثال بنونه من تطوان والمكي الناصري في الرباط وعلال الفاسي في فاس.

السؤال الثاني هو ما هو الدور الذي سيلعبه المرحوم عبد الله كنون في سياق نشأة الحركة الوطنية المغربية، ليبرز جبرون أن الحركة الوطنية المغربية نشأت في تفاعل مع المشرق حيث ارتبطت بالسلفية ونجاحات الحركة الوطنية بالمشرق العربي والتي تجد لها جدورا في اليقظة الفكرية التي شهدها المشرق منذ النصف الثاني من القرن 19. في هذا الاطار العام وجد عبد الله كنون نفسه مكلفا بالإعلام والتواصل مع المشرق، فكانت الصحف المشرقية تعطي وتقدم أخبارا عن المغرب وذلك عبر عبد الله كنون، وكانت وسيلة التواصل تتم عبر البريد الإنجليزي الذي كان يسهل دخول الصحافة المشرقية الى المغرب في حين كان ذلك مستحيلا مع البريد الفرنسي الذي كان يفرض رقابة صارمة بكل ما يتعلق بالصحافة والعمل الوطني. لقد وجد عبد الله كنون نفسه مكلفا بالإعلام والتواصل مع المشرق ما بين الحركة الوطنية والمشرق، ولا يمكن نكران مساهمة المشرق في تأطير الحركة الوطنية المغربية، وفي ما يمثله ذلك من ارتباط بالعروبة والعالم العربي كعمق استراتيجي للمغرب ، والذي كان آنذاك يمثله عبد الله كنون بشكل كبير، وعبر الصحافة المشرقية  كذلك كانت تصل الافكار التقدمية المشرقية الى المغرب فتقوم بتحفيز وتحميس الشباب المغربي.

ويقف جبرون عند المسألة الثانية المتمثلة في مسار حياة كنون من خلال دوره  التعليمي، فكما هو معروف بطنجة خلال فترتها الدولية كانت هناك هيمنة للتعليم التابع للبعثات الأجنبية والمدارس الإسرائيلية، في حين ظل المغاربة خاضعين لتعليم عتيق، فكان هاجس عبد الله كنون هو فكرة التعليم المغربي بطنجة، حيث كان رائدا ومؤسسا للمدرسة الحرة، فكان منظوره يدخل في اطار اهمية تكوين نخبة مغربية وطنية تتحمل المسؤوليات السياسية وأعباء الحركة الوطنية، حيث كانت لكنون شجاعة علمية وسياسية كذلك. ونقفه عند الفتوى التي أطلقها حول حكم تجرع السم بالنسبة للفدائيين المغاربة، فبعد يأس المغاربة من العمل السلمي تم التوجه نحو العمل المسلح، الذي كان في البداية ضمن العمل الفدائي، ثم تطور بعد ذلك الى جيش التحرير. وذلك راجع الى القمع الكبير الذي كان مسلطا على المغاربة والحركة الوطنية والذي لا زال يحتاج الى الكثير من البحث والتنقيب، خاصة وان جزءا كبيرا من هذا القمع والتنكيل الاستعماري غير مدون، يضيف جبرون. ففي حال اعتقال فدائي مغربي كان يسمح له بتجرع السم تفاديا للتعذيب وللحصول على معلومات كانت حينها ستضر بالفدائيين والحركة الوطنية، ولنا مثال في المرحوم الزرقطوني عندما اعتقل كان من الاوائل الذين أقدم على تجرع السم، وهذا الفعل المتمثل في فتوى عبد الله كنون، واجهه مجموعة من العلماء التقليديين وحرموا هذا الأمر، في الوقت الذي أفتى فيه كنون بجواز الأمر لحمايه الحركة الوطنية الناشئة وفي مساهماته العلمية والثقافية، والتي يبرز كتاب النبوغ المغربي كشاهد حي على ذلك.

فالنبوغ المغربي يضيف جبرون، أسس لمكانه متميزة للمغرب في الثقافة المشرقية حيث كان المشرق يرى أن المغرب لا أصاله له في اللغة ولا في الشعر ولا في الادب ولا في التاريخ، غير ان عبد الله كنون من خلال النبوغ اعاد الاعتبار للمغرب والمغاربة: ثقافيا وتاريخيا ولغويا ودينيا وروحيا، والفرنسيين لم يرقهم هذا الأمر وحاولوا محاصرة الكتاب ومنع طباعته. ونحن لازلنا لحد الان نعتبر النبوغ المغربي مرجعا وقاعدة بالنسبة لأي باحث، كما أن هذا الكتاب يعتبر مرجعا أساسيا خلال العصر الوسيط لما يتضمنه من مشاهير رجال المغرب، ويبين جبرون أن عبد الله كنون خلال فترة الاستقلال ورجوع مدينه طنجة الى حضن الوطن، كان أول عامل على المدينة، وكان يمثل إجماعا عليه، كما انه عايش مرحلة انتقالية ما بين الفترة الدولية وقوانينها المستعصية، إلى طنجة ضمن حضن الوطن والقوانين الوطنية. وبشكل عام كان الهم الأساسي لعبد الله كنون هو الدفاع عن الهوية الإسلامية للمغرب، والعمل على سمو المرجعية الإسلامية في القانون المغربي.

أما مداخلة ومساهمة الدكتور مصطفى بوجمعة التي أكدت على أهمية الاحتفاء بالعلامة عبد الله كنون الذي يعتبر احتفاء بالنموذج المغربي. فمغرب اليوم هو امتداد للماضي من خلال تجارب السابقين التي لا زالت مفيدة لنا في عصرنا، وأشار بوجمعة إلى أهمية الوقوف على سياق الاستعمار، هذا السياق الذي جعل من المغرب أن يبرز لنا شخصيات وطنية. فالاستعمار لم يأخذ منا الوطن فقط، بل انه كان يحاول اخذ الهوية والذاكرة، وهي النقطة التي خاف منها عبد الله كنون، الخوف على الهوية الدينية والوطنية والثقافية للمغرب والمغاربة، حيث كانت هناك خشيه كبيره من ان يؤثر ذلك على الشخصية المغربية. فهذه التجارب والسياقات تعتبر منطلقات لما تم تحقيقه الآن من تراكم وتطور، والتي تركت آثارها في فتره ما بعد الاستقلال. ويضيف الدكتور بوجمعة أنه من الصعب الحديث عن كل ما تركه المرحوم عبد الله كنون في حركاته وتنقلاته واسهاماته الوطنية ومساهماته العلمية، ليبين أنه سيقف عند مجموعة من المساهمات العلمية وأولها مؤلفه الفريد النبوغ المغربي. فلابد لنا التوقف عند التسمية المتمثلة في النبوغ، فخلال فترة عبد الله كنون كانت مختلف البرامج التعليمية اغلبها نصوصا مشرقية، وعبد الله كنون والعديد من العلماء كان لديهم غحساس بالنقص من عدم وجود نصوص مغربية أصيلة، فجاء بكتاب النبوغ المغربي الذي أسس لعمل اوسوعي يعرف بالإبداع المغربي، فكان من الممكن تسميته بالأدب المغربي، أو مساهمات الأدباء المغاربة، غير ان عبد الله كنون اختار اسم النبوغ المغربي، اولا لإبراز التميز، وثانيا للفت الانتباه.

من المؤلفات كذلك نذكر جولات في الفكر الإسلامي، والتي لا زالت لديها حضور من خلال القضايا التي كان يعالجها كالمرأة والهوية والاقتصاد والثقافة بنوع من الابداع، كان الغرض البارز الدفاع عن كرامة الأمة الإسلامية جمعاء، فكان ينبه الى أن الغرب يسعى لفرض نموذجه على المجتمعات الإسلامية في قضايا المرأة وحقوق الإنسان على الخصوص، فكان يستحضر الاحكام الشرعية للرد على الفكر الغربي وما يريد فرضه على المجتمعات الإسلامية، ومواجهه التخلف والجمود العربي والإسلامي وضغوط الاستعمار. فنجده اتبع منهجيه علميه رصينة بدأها بالحديث عن نزول القرآن والإعجاز بهدف الدفاع عن المصدر الأول للتشريع لدى المسلمين، ثم انتقل للحديث عن السنن، عن سنة رسول الله والتي تمثل تميزا وعبقرية إسلامية، وبعدها انتقل الى الحديث عن الإيمان كمجال عقدي، خشية من ان يكون هناك نوع من التأثير على المجتمع، وفي الاخير تحدث عن الدين والشباب، ومستوى مستقبل الإسلام حيث يذكر الشباب المسلم بان الاجيال السابقة المسلمة خلال العصور الوسطى، كانت تعمل على مواجهه الشبهات وخلال فتره الاستعمار وجد المسلم نفسه امام مذاهب وأيديولوجيات، تقول على أن الاسلام هو سبب تخلف المسلمين. وختم كنون حديثه بالتطرق الى قضايا تهم الاسلام والمسلمين، فأكد على ضرورة وحدة الإسلام وتماسك الامة والإشارة الى الثوابت المغربية والمذهب المالكي وقاعده العمل عند المالكية وتميزها خاصه في مساله الافتاء في مختلف النوازل. ويشير الأستاذ في نهاية مداخلته إلى أن عبد الله كنون كان بحق له بعد نظر، وطرح اسئلة سابقة لعصره تتعلق بحقوق الانسان والقضية الفلسطينية، ومسألة التنصير في المغرب وبالتالي نحن لا زلنا في أمس الحاجة الى الوقوف على اسهامات عبد الله والقضايا التي طرحها.

تمثلت المداخلة الأخيرة للدكتور مصطفى الغاشي، الذي اعتبر المرحوم عبد الله كنون من الجيل المؤسس والرواد في الميدان التعليمي، والتي جاءت للإجابة عن اشكالية تتمثل في بناء مدرسة مغربية، والنبوغ المغربي حسب الدكتور مصطفى الغاشي، جاء ليجيب عن أمرين: الأمر الأول مسألة هيمنة الثقافة المشرقية، وثانيا ماذا يمثل المغرب أمام هيمنة الثقافة المشرقية. كمت بين الغاشي أن  عبد الله كنون كان عصاميا، كون نفسه علميا ولم ينتظم في أي سلك تعليمي، ومن أروع ما قام به، هو  وهب مكتبته أواخر حياته، والتي تعتبر من أغنى المكتبات الشخصية في المغرب، والتي تتوفر على مراجع ووثائق ومجلات وذخائر، وهو الأمر الذي شجع على تحبيس العديد من العلماء كتبهم ووثائقهم لفائدة مكتبه عبد الله كنون، ليستشهد  بالمرحوم عبد الله المرابط الترغي الذي وهب خزانته، لمكتبة عبد الله كنون، حيث أوقف عليها اكثر من 45,000 عنوان. ويؤكد الغاشي أنه لا يستقيم الحديث عن طنجة الكبرى في غياب مكتبة مستقلة توفر الكتب والوثائق، فرغم قيام مجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة بإصلاح مكتبه عبد الله كنون، الا أنه كان من الأفضل تخصيص مكتبة خاصه بفضاء خاص وأسع لمدينة طنجة تكون في مستوى المدينة. حيث دعا الغاشي كل الغيورين على الثقافة بطنجة على إيلاء الأمر ما يستحقه. ويستشهد الغاشي في نهاية مداخلته  بجنازة المرحوم عبد الله كنون سنه 1989 والتي كانت بحق جنازه مهيبة عظيمه، خرج فيها أهل طنجة بتلقائية وحضرت فيها رموز طنجة ورموز مغربية في مجال السياسة والثقافة، كما يجب التذكير بأن عبد الله كنون كرم بوسام الاستحقاق من الملك الراحل الحسن الثاني، ولا يمكن بأي شكل من الاشكال تجاوز ما قدمه عبد الله كنون، من اجل الشخصية والهوية المغربية التي نطلق عليها حاليا “بتمغربيت” والتي لا تعتبر مجرد كلام بل هي ذاكره حقيقيه تصون الهوية المغربية الأصيلة وأصالتها وتفردها وتميزها عن باقي الشعوب.

وجدير بالدكر أنه تم تكريم الأستاذة الباحثة نادية العشيري الفائزة بجائزة حمد للترجمة والتفاهم الدول في دورتها التاسعة بالدوحة القطرية.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق