سلايدر الرئيسيةمقالات الرأي

عبد الرحمن الصديقي يكتب.. العقد الاجتماعي وتحرير الطاقات في النموذج التنموي الجديد

شكلت التغطية الاجتماعية أساس النموذج التنموي الجديد، وكان ذلك بديهيا اعتبارا للتأطير الذي قام به جلالة الملك لهذا الموضوع منذ عدة سنوات، وللأهمية التي يعطيها شخصيا لهذه المسألة في كل خطاباته ومبادراته، ولأن هذا الموضوع بالذات كان سببا مباشرا في إخفاق النموذج التنموي السابق في تحقيق الرفاهية المجتمعية والعدل الاجتماعي والعدالة المجالية، وتنزيل أسس العقد الاجتماعي المتضمن في الدستور، والذي يشكل أساس الاستدامة والسلم المجتمعي والمواطنة. لأن الفرد لن يستطيع العيش والتعايش في مجتمع حر إذا لم يكن كذلك مجتمعا عادلا ومنصفا، كما أثبت التاريخ ذلك.

هذا العقد الاجتماعي أصبح منذ 14 أبريل مشروعا ملكيا، لأنه لا يستطيع الانتظار من جهة، ولأنه لا يمكن أن يكون ميدان مزايدات سياسوية قد تجعله، كما فعلت بالعديد من المشاريع الأخرى، مولودا ميتا، يبرر أفعال فلان وعلان، وميدانا خصبا للابتزاز السياسي والسياسوي والوعود والمتمنيات.

إذا كانت فلسفة النموذج التنموي الجديد تنبني على أساس إعادة “الثقة للمواطن من أجل تحرير طاقاته”، فالتغطية الاجتماعية وحدها قادرة على تحقيق هذا المبتغى. “ثقة المواطن” في نفسه أولا وفي ملكاته وقدراته، ثم في عائلته ومجتمعه، وفي قياداته ومؤسساته ودولته ووطنه، لا يمكن أن تتأتى إلا من خلال الامن والأمان والراحة والطمأنينة والاطمئنان.

ألم يطلب سيدنا إبراهيم عليه السلام الامن والأمان قبل الغذاء لبلده. والامن والأمان يكون من خلال الاطمئنان على سلامة البدن أولا، وضمانات المستقبل ضد المرض والفقر والعاهة والحاجة والعوز وتبعات مرحلة أرذل العمر. حين يطمئن الانسان لمستقبله ومستقبل أبنائه وعائلته، وحين يقتنع بوجود مصعد اجتماعي سالم وسليم وعادل، لا يقصي ولا يستثني أحدا بسبب حسابات ريع السياسة والدين والدم والقبيلة، فإنه يحرر طاقاته ويندمج في مجتمعه وترابه وقريته ومدينته وجهته ووطنه، حسب نظرية هرم ماسلوف MASLOW الشهيرة في ميدان تحفيز الموارد البشرية داخل المقاولة.

الوصول الى هذا المبتغى يتطلب، بطبيعة الحال، العديد من التضحيات وتغيير العقليات وزحزحة العديد من المعتقدات والموروثات من المسلمات المجتمعية والسياسية والاقتصادية. نظرة متأنية لمشروع التغطية الاجتماعية تبين ذلك بالملموس.
فمسألة التغطية الاجتماعية لم تعد في “خانة الشفقة” والرحمة ولكن أصبحت في “خانة الحقوق” والمنفعة، وأصبحت ممأسسة في إطار مشروع متكامل في جوانبه القانونية والبشرية والمالية والمؤسساتية واللوجستية، … وهذا التغير يعتبر مشروعا، بحد ذاته، يتطلب عدة مراحل من أجل إقناع مكونات المجتمع والدولة للقطع مع الممارسات البائدة التي كانت تكرس علاقات التبعية والهيمنة والتمكين والتحكم الغريبة على المجتمعات الديمقراطية، والتي كانت تغذي كل اشكال الفساد الاجتماعي والسياسي المعروف “من أخذ من فلان أو علان وجب عليه أن يرد جميله عليه”. علاقات الرحمة والشفقة والتبعية والتحكم هي الصيغة التي كانت طاغية ببلدنا سواء في السياسة أو الإدارة أو الاقتصاد.

مع ترسيخ حق التغطية الاجتماعية في صيغتها الحالية، والتي لن تتأتى إلا من خلال الادماج الاقتصادي والتغطية الصحية والتعويضات العائلية والحق في التقاعد والحق في المساعدة إذا حل بالفرد أو عائلته حادثة حرمته من موارده الاقتصادية، … سيتحرر الفرد ومعه المجتمع من قروض التحكم وسيحرر طاقاته لخدمة الوطن. صحيح أنه لكل حق واجبات. ولكن الواجبات تكون للوطن والأمة والدولة رمز الديمومة وليس للأشخاص أو الأحزاب أو مراكز ضغط قد تزول يوما وتهدد معا أسباب الاستقرار والاستدامة.

من خلال ما سلف نفهم لماذا شمل مشروع التغطية الاجتماعية الذي صار مشروعا ملكيا كاملا بامتياز كل من : التأمين الاجتماعي (التأمين على المرض والحق في التقاعد)، المساعدة العائلية، الصحة، التعليم، التعويض عن فقدان الشغل والعمل الاجتماعي. مشروعا سيتم تنزيله عبر مراحل وفي شراكة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمكونات الترابية.

العدالة الاجتماعية حق دستوري وحق ديمقراطي وأساس الديمومة والرفاهية المجتمعية. هذا المبتغى لا يكون فقط بشكل عمودي وطبقي بل كذلك بشكل افقي ومجالي. فالمصعد الاجتماعي لكي ينقل المواطن ويجعله يتدرج وجب عليه أن لا يستثني كل التراب الوطني. التنمية والتقدم يمران بتساوي الفرص مجاليا كذلك من خلال فك العزلة ودمقرطة التجهيزات والبنيات التحتية والطرق والولوج للمعرفة. هنا كذلك لا يجب أن ينظر الى المسألة من عين الشفقة والرحمة. بل من باب الحق والواجب المواطناتي، في اطار قروض من الوطن لمجالاته الواسعة من أجل تحرير الطاقات وتحريك عجلة الإنتاج في كل الدارالبيضاء وطنجة وتنغير وآيت علي وجرادة وزحيلكة وزاوية التفاح وسوق الحد.
قد يقال بأن في الامر تمني ولكن المنطق الاقتصادي يقول بأن قروض اليوم تصنع ودائع الغد. حشيش كتامة في إطار التقنين، وبفضل الاستثمار في البنيات التحتية (طرق) وتأهيل العنصر البشري بفضل التكوين والتعليم ومن خلال تحريك الاقتصاد التضامني والاجتماعي، من شأنه خلق وحدات وميكيادورات محلية للمعالجة والتقطير والتعليب قادرة على خلق مناصب شغل، في إطار الاقتصاد المهيكل، ستعمل على إعادة توزيع الثرورة وخلق ميكانيزمات الديمومة والاستدامة. ما قيل على حشيش كتامة يقال أيضا على ازير المناطق الشرقية وأركان والشيح والنخيل وغيرها.

عبد الرحمن الصديقي
saddiki@gmail.com
أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بطنجة

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق