مقالات الرأي

توفيق بوعشرين يكتب: دستور جديد وأدوات حكم قديمة

توفيق بوعشرين

السلطة، عادة، لا تصلح نفسها إلا إذا أجبرها المواطنون على ذلك، والدولة تتعايش مع عيوبها مثلما يتعايش الإنسان مع رائحته الكريهة، هو لا يشمها، بل الآخرون من يتأذون منها. الأنظمة التقليدية تخاف التحديث، وتعتبره خطرا عليها لا حبل نجاة لها، ترى أن اليوم يشبه الأمس والغد، وليس هناك شيء آخر أفضل من اليوم، ولهذا تلعب هذه الأنظمة على استهلاك زمن الإصلاح إلى أن تمر العاصفة، وكل مرة تحت شعار جديد، وبرنامج جديد، ووجوه جديدة، وإصلاحات جزئية متفاوض عليها وتحت المراقبة، مخافة أن تؤثر على الجوهر السلطوي، أو على احتكار السلطة وإدارة اللعبة السياسية من محور مركزي.
تشرف التجربة الثالثة للإصلاح الديمقراطي أن تسدل ستارها اليوم (الأولى كانت في 59 مع حكومة عبد الله إبراهيم، وانتهت بالفشل ودخول البلاد إلى سنوات الرصاص والظلام، والثانية كانت سنة 1998 مع عبد الرحمان اليوسفي، وانتهت بالإخفاق باعتراف أحد قادتها، ثم تلت ذلك العودة إلى خلق الحزب الإداري والحكومة التقنوقراطية، والثالثة بدأت سنة 2011 مع عبد الإله بنكيران وتنتهي في أكتوبر المقبل)، لكن لا أحد يدعي اليوم أننا على أبواب دخول النادي الديمقراطي. مازالت الانتخابات، مثلا، لعبة غير مفتوحة على التباري الحر والشفاف، ومازال الدستور ورقة للاستئناس وليس قانونا ملزما لكل الأطراف، ولاتزال المؤسسات تشتغل تحت الوصاية وأمام ثلاثة ألوان: أخضر وأصفر وأحمر. أمام الأخضر عادة موضوعات هامشية وقضايا تدبيرية لا تأثير لها على جوهر الحكم، ولهذا فإن المؤسسات، بما فيها الحكومة والبرلمان وهيئة الحكامة والأحزاب والنقابات، تتحرك بحرية نسبية، وأمام اللون الأصفر هناك محاذير كثيرة، ولهذا وجب التفاوض والتشاور وانتظار الإذن، في حين أمام اللون الأحمر لا حركة ولا مبادرة. لغة واحدة تسود.. تنفيذ التعليمات والتقيد الحرفي بها.
هذا التقسيم للسلطة لا يخضع للدستور المكتوب بل للدستور غير المكتوب، وللأعراف والتقاليد وموازين القوى الجامدة، ولهذا أصبحنا نعيش في مسلسل انتقال لا ينتهي.
التقيت أخيرا أمينا عاما لحزب سياسي مشارك في الحكومة، وآخذني بكثرة نقد الحكومة وأداء رئيسها، خصوصا في ما يتعلق بالتفريط في دستور 2011، وروى لي قصة له مع حكماء حزبه الذين سألوه مرة عن الداعي إلى تفريط حكومة بنكيران في صلاحياتها المكتوبة في الدستور الجديد، فرد عليهم بالقول: «نعم، المغرب فيه دستور جديد لكن تقاليد الحكم فيه مازالت قديمة».
الحل الذي اختارته حكومة بنكيران، إذن، هو جعل الدستور الجديد يلبس رداء الحكم القديم، والغرض هو التعايش مرة والتطبيع أخرى، والخوف من سوء الفهم دائما، لكن هذا النهج، على ما فيه من عيوب، لم ينتج سلاسة في مباشرة الإصلاحات، ولا ساعد على نهج الحكامة ومحاربة الفساد والقطع مع أعطاب نظامنا السياسي، والدليل ما يردده بنكيران نفسه عن «قلالش الحكم»، وعن «مسامر الميدة» الذين منعوه من توزيع الدعم المباشر على الفقراء، وعن صعوبة تحرك قطار الإصلاح في الدولة، وعن عجز الحكومة عن محاربة الفساد وعن، وعن، وعن…
الصعوبة التي نتجه بها إلى الانتخابات التشريعية المقبلة، وانتعاش الرهان على حزب الدولة، واللعب الخشن للداخلية مع حزب رئيس الحكومة، وتعثر عدد من الإصلاحات الجوهرية، كلها تعطينا الدليل على أن بلادنا مازالت في قاعة انتظار كبرى، وأنها لم تحسم مع الثابت الرابع من ثوابت الوثيقة الدستورية، وهو الخيار الديمقراطي. الأمل الصغير الوحيد الذي مازال يمكن للمرء أن يعول عليه هو وعي الناس بهذا المأزق، هو انتباههم إلى ما يجري فوق حلبة السياسة، هو مصالحة الشباب مع الشأن العام… غير هذا لم يظهر بنكيران أي مقاومة في جبهة دمقرطة البلاد وتحديث المؤسسات، ولا بذلت الدولة العميقة مجهودا للتكيف مع الأوضاع الجديدة، ومع التقسيم الجديد للسلط. لقد أصبح استقرار المغرب في محيط مضطرب مخدرا كبيرا يمنع المملكة من مواجهة أسئلة الإصلاحات العميقة لأجهزة الدولة.
الذي ينتظر خروج الناس إلى الشارع ليبدأ الإصلاح مثل ذلك الذي ينتظر أن يحس بالعطش لكي يشرع في حفر بئر.. سيضيع الكثير من الوقت.

الوسوم

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق