سياسة

باحث يرصد المعارك السياسية لحزب العدالة والتنمية

سعيد الحاجي

حزب العدالة والتنمية …ومعركة الوجود الانتخابي

أسفرت نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية الأخيرة في المغرب عن تصدر حزب العدالة والتنمية لترتيب الأحزاب المشاركة من حيث عدد الأصوات، بحيث ناهز ما حصل عليه الحزب مليون ونصف المليون صوت، جلها كان في الوسط الحضري ومن الطبقة المتوسطة والغنية، وهو ما اعتبر بمثابة مؤشر مهم على استمرار ثقة هذه الطبقة في الحزب رغم السياسات التي ينهجها على رأس الحكومة والتي يعتبرها بعض المحللين مضرة بمصالح الطبقة المتوسطة أساسا.

13346449_10154271641413960_4026483279225635903_n

حزب العدالة والتنمية المغربي ومنذ أن أعلن عن نفسه كفاعل حزبي جديد تحت هذا الاسم سنة1998، بعدما كان يحمل اسم ” الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية “، خاض مجموعة من المعارك على جبهات متعددة، بحيث أنه ما يكاد يخرج من معركة حتى يدخل في أخرى، حتى أنه كان قاب قوسين أو أدنى من سيناريو الحل بعد الأحداث الإرهابية لماي 2003 والتي ابتدع على إثرها خصوم الحزب تهمة المسؤولية المعنوية عن الأحداث لإلصاقها فيه تمهيدا لحله، وهو ما كان محط نقاش قوي من طرف مجموعة الفاعلين الذين اعتبروا حل حزب بدأ يحظى بتعاطف شعبي ملحوظ بمثابة فتح الباب أمام نزعة تطرف غير محسوبة العواقب في ظل وجود تجربة سلبية في هذا الصدد بالجارة الجزائر مع جبهة الإنقاذ الإسلامية.

لم يكن دخول حزب العدالة والتنمية المغربي للعبة الانتخابية أمرا هينا في ظل نظرة الارتياب التي كان ينظر بها النظام المغربي إلى حزب ذو مرجعية إسلامية، خصوصا وأن ضغط المنتظم الدولي اشتد أكثر بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر بالولايات المتحدة الأمريكية، على الدول التي تحتضن الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية من جهة، ومن جهة أخرى توجس لوبيات الفساد من خطاب النزاهة والشفافية الذي تتبناه والذي يهدد مصالحها التي جعلت منها تعاقدا مع النظام لحمايته والاستفادة من غطائه في نفس الوقت لمراكمة الثروة.

فبعدما حصل على تسعة مقاعد في الانتخابات التشريعية لسنة 1997، تعرض حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية لسنة 2003 لضغوطات قوية من أجل عدم تغطية نصف الدوائر الانتخابية في المغرب، خصوصا وأن مخزن العهد الجديد اقتنع أنه لم يعد هناك مجال لتزوير الصناديق، وأنه يجب العمل بصيغة توجيه وضبط أخرى للمشهد السياسي، والمتمثلة في رسم الخرائط الانتخابية وتحجيم الأحزاب الغير مرغوب فيها وتحريك يد

السلطة لدعم مرشحي الأحزاب الإدارية لإفراز مجموعات منتخبة تضمن تحكم السلطة في مختلف مكوناتها، وقد اجتاز حزب العدالة والتنمية هذه المحطة بنهجه لسياسة مرنة قائمة على الخضوع لرغبات السلطة، اقتناعا من الحزب بعدم تكافؤ موازين القوى بين حزب فتي متوجس منه، وسلطة قوية مسنودة بدعم الغرب لمواجهة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، حيث حصل الحزب في انتخابات 2002 على 42 مقعدا ليدخل البرلمان المغربي في صف المعارضة، حيث استغل موقعه ليعزز تدريجيا شعبيته بتبنيه لخطاب معارض قوي، وفي نفس الوقت العمل على تقوية بنيته التنظيمية وتوسيع رقعتها الجغرافية ليصبح الحزب حاضرا في مختلف المناطق المغربية..

خلال الانتخابات البرلمانية لسنة 2007 سيوسع حزب العدالة والتنمية تغطيته للدوائر الانتخابية وسيحصل على 47 مقعدا برلمانيا ستجعله أقوى فريق في معارضة حكومة عباس الفاسي الأمين العام لحزب الاستقلال، حيث سيكون الوضع الجديد للحزب وتزايد شعبيته بمثابة جرس الإنذار للدولة التي أصبحت ترى فيه طرفا من الصعب تجاوزه في معادلة الضبط والتحكم، وأصبح استعمال وسائل التحجيم المعروفة كتزوير الانتخابات أو فرض الترشيح في دوائر معينة أو غير ذلك من الوسائل، بمثابة خدش للواجهة البراقة التي حاول العهد الجديد وضعها أمام المنتظم الدولي، وكذلك مؤشرا سلبيا تجاه شرائح عريضة من المغاربة الذين أصبحوا يدعمون الحزب، وبما أن الرهان على الأحزاب التاريخية لمواجهة المد الشعبي لحزب العدالة والتنمية أصبح خاسرا بعد ترهل البنيان التنظيمي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بفعل تداعيات المشاركة في حكومة التناوب، وكذلك حزب الاستقلال الذي تضررت صورته جراء الأداء الضعيف لحكومة عباس الفاسي، فقد كان حريا بالدولة أن تبحث عن صيغة لإحداث نوع من التوازن في المشهد السياسي المغربي بما يخدم حساباتها التي يحكمها هاجس إحكام قبضة السلطة على المشهد السياسي في المغرب، حيث تم دفع مستشار الملك محمد السادس وصديق دراسته فؤاد عالي الهمة إلى المعترك السياسي بعد مهمة وصفها البعض بـ “الخاصة ” كوزير منتدب في الداخلية.

العدالة والتنمية في مواجهة حزب الدولة

شكل دخول صديق الملك للساحة السياسية نقطة تحول مهمة في المشهد السياسي المغربي، إذ تم بصيغة حركة للتفكير والتأمل في الوضع السياسي المغربي متمثلة في ” الحركة لكل الديمقراطيين ” التي تحولت إلى حزب الأصالة والمعاصرة، الذي استطاع تشكيل فريق برلماني دون خوض انتخابات تشريعية واحدة، بحيث كان هذا التغول المتسارع للحزب الجديد يحمل رسالة واحدة، مفادها الرغبة في الحد من القوة المتنامية لحزب العدالة والتنمية وإرجاع التوازن للمشهد السياسي المختل حسب حسابات السلطة، وهو ما تجلى بوضوح في المحطة الانتخابات الجماعية لسنة 2009، حيث عمل حزب الأصالة والمعاصرة على نسف

كل التحالفات التي دخل فيها حزب العدالة والتنمية لقطع الطريق أمام كل الحزب الإسلامي الساعي إلى تسيير بعض المدن المهمة لتكريس نموذج جديد في التسيير يساهم في تزايد شعبيته، وهو ما كان مستهدفا من قبل حزب الأصالة والمعاصرة الذي استخدم مؤسسوه أساليب متعددة لنسف تحالفات حزب العدالة والتنمية وركنه في المعارضة على مستوى الجماعات التي كان يطمح لتسييرها، حيث وصلت شراسة الحرب على حزب العدالة والتنمية أن زجت بجامع المعتصم أحد قيادييه في السجن بتهم تمت فبركتها في رسالة واضحة إلى باقي منتخبي الحزب في مختلف مناطق المغرب.

حزب العدالة والتنمية أصبح في مواجهة مكشوفة غير متكافئة مع الحزب الجديد المسنود من السلطة، فكان أول رد فعل من أعضائه تغيير قيادته المتمثلة في الأمين العام سعد الدين العثماني الرجل المهادن والمحاور الهادئ، وتزكية مرشح آخر رأى مؤتمرو الحزب أنه لن سيكون سوى عبد الإله بنكيران الذي سيدشن مرحلة جديدة قائمة على المواجهة والمعارضة الشرسة وتسمية الأمور بمسمياتها، حيث ستكون اللقاءات التواصلية للأمين العام الجديد فرصة لإرسال القذائف الكلامية نحو حزب الأصالة والمعاصرة أو حزب الدولة الجديد وبعض رموزه، وعلى رأسهم فؤاد عالي الهمة وإلياس العمري اليد الباطشة للحزب ومرسول الشر حسب بنكيران.

اشتداد وطأة الصراع بين حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصر لن يضع حدا لها سوى اندلاع شرارة الاحتجاجات خلال الربيع العربي مع حركة العشرين فبراير والتي كادت أن تحدث شرخا داخل حزب المصباح بسبب تباين مواقف قيادته من الانخراط في الحراك الاحتجاجي الجديد، بل إن بعض القياديين مثل مصطفى الرميد وعبد العالي حامي الدين شاركوا في بعض مسيرات الحركة، قبل أن ينسحبوا منها بعدما ظهر لهم غموض بخصوص سقف مطالبها التي لم تعد واضحة في ظل التناقضات التي اتصف بها خطاب مكونات الحركة والخلافات التي اندلعت داخلها بين اليسار الراديكالي وجماعة العدل والإحسان.

حكومة العدالة والتنمية في مواجهة السلطة

لقد كان الربيع العربي بمثابة محطة وقوف لحزب الأصالة والمعاصرة بعدما رفع المحتجون صور قيادييه عالي الهمة وإلياس العمري صورهم مطالبين برحيلهم عن المشهد السياسي المغربي، وحصول إجماع على أن الوافد الحزبي الجديد ليس سوى أداة تحكم وضبط للمشهد السياسي المغربي وإعادة النقاش الديمقراطي إلى نقطة الصفر، حيث ستعمد الدولة إلى إقرار دستور جديد يتضمن تغييرات اختلف حول جدية مضامينها، كما تم تنظيم انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، وهي انتخابات سنة 2012 التي اعتبرها الملاحظون الأقل فسادا منذ الاستقلال إلى اليوم، انتخابات اضطرت معها الدولة إلى إرخاء قبضتها قليلا عن المشهد

السياسي المغربي، وهو ما كان فرصة أمام حزب العدالة والتنمية كي يعود بقوة إلى الواجهة باحتلاله الرتبة الأولى بـ 107 مقاعد ليعين أمينه العام رئيسا لأول حكومة في ظل دستور 2011، وليعاد الاعتبار لحزب العدالة والتنمية بعد كان جرار حزب الأصالة والمعاصرة مقبلا على حرث الأخضر واليابس في أول استحقاق تشريعي في أفق قيادة الحكومة وإرجاع المشهد السياسي إلى حوزة السلطة بشكل نهائي، وبذلك يكون حزب العدالة والتنمية قد خرج منتصرا من معركة إثبات مشروعية وجوده في المشهد السياسي المغربي بعد حاولت السلطة استدراجه ومحاصرته في بداياته لتضع حدا لكل ما يمكن أن يجعل لأي حزب ذو مرجعية إسلامية امتدادا في الشارع.

لقد كان حزب العدالة والتنمية أمام مرحلة جديدة تحول فيها الحزب من معركة الوجود التي حسمها، إلى معركة تكريس نموذج للتسيير يتماشى مع قناعات الحزب الإصلاحية، ويحاول تحقيق طموحات وآمال الشعب المغربي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من فقدان الثقة تماما في العملية السياسية، بعدما نجحت السلطة على مدى عقود في إحباط كل محاولات الأحزاب التاريخية لتنزيل أي مشاريع إصلاحية، وفي ظل استسلام جزء كبير من النخبة السياسية للأمر الواقع وتحولها من محاربة استبداد السلطة إلى مبررة لهذا الاستبداد وانخراط كلي فيه مقابل الاستفادة من ريع السلطة وامتيازاتها.

لم تدخر السلطة بعد تولي حزب العدالة والتنمية لرئاسة الحكومة جهدا في فرملة كل المشاريع الإصلاحية التي حاول الحزب القيام بها، وقد كانت الجلسات الشهرية لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في مجلس النواب فرصة للرجل كي يوجه رسائل في كل الجهات التي تقف وراء عرقلة عملها، بحيث أصبحت تلك الجلسات التي نص عليها الدستور الجديد تشكل إزعاجا لبض الأطراف في السلطة والأحزاب التي تدور في فلكها، خصوصا في ظل تفاعل المواطنين مع تلك الجلسات وتفهمهم لمجموعة من التبريرات التي كان يسوقها رئيس الحكومة بأسلوب خاص في التواصل حول القرارات التي اعتبرها الملاحظون صعبة على الطبقة الوسطى والفقيرة بالأساس، من قبيل تقليص الدعم لبعض المواد الأساسية والاقتطاع من أجور المضربين عن العمل وإلغاء التوظيف المباشر، ورغم وجود أحزاب الاستقلال والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية إلى جانب حزب العدالة والتنمية في الحكومة، وهي أحزاب معروفة بقربها من السلطة، إلا أن تأثيرها في الحكومة كان ضعيفا أمام القوة الواضحة لحزب العدالة والتنمية، مما جعل الأمر يبدو وكأنه استئثار لهذا الحزب بالشعبية المتزايدة التي أصبحت تجلبها خرجات بنكيران لحزب العدالة والتنمية.

وللحد من أي تغول محتمل لحزب المصباح في المشهد السياسي كان لزاما على السلطة الدفع بما يحد من هذا الأمر، فاستغلت موجات ” الردة ” التي شهدتها بلدان الربيع العربي من قبيل إسقاط إسلاميي مصر وتنازل إسلاميي تونس عن السلطة، لإرجاع حزب الأصالة

والمعاصرة للواجهة بعقده لمؤتمر وطني أعلن رسميا خروج صديق الملك فؤاد عالي الهمة الذي سبق وأن عين مستشارا للملك بعد إقرار دستور يوليوز، والدفع بأمين عام جديد لحزب البام لن يكون سوى أحد المقربين من القصر مصطفى الباكوري الذي رأى فيه الكثيرون مجرد واجهة لحزب يقوده على الواقع ثعلب الريف كما يحلو للبعض تسميته إلياس العمري، وفي نفس الوقت تم الدفع بحميد شباط وادريس لشكر لقيادة حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي قصد إيجاد ” نظائر ” لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران الذي أصبح سيد اللقاءات التواصلية في غياب زعيم حزبي قادر على مجاراة أسلوبه.

لقد حاولت السلطة أن تكون ذكية في فرملة مسار إسلاميي المغرب في الحكومة، إذ أن الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال حميد شباط كان هو اللاعب الموالي في معترك المواجهة مع حزب العدالة والتنمية من داخل التحالف الحكومي، إذ بدا أن شباط يبحث عن أي سبب للخروج من الحكومة، ولم يكد يكمل سنته الأولى على رأس الحزب حتى كان قرار الخروج إلى المعارضة ” مصادقا عليه ” من طرف المجلس الوطني للحزب، حيث وجد عبد الإله بنكيران نفسه أمام امتحان جديد لإعادة ترميم أغلبيته الحكومية التي أصبحت مهددة بالانفراط، ولم يكن أمامه سوى ثلاث خيارات لتجاوز هذا الامتحان، إما التحالف مع حزب التجمع الوطني للأحرار بزعامة صلاح الدين مزوار الذي أصبح في تلك الفترة موضوع قصف إعلامي من طرف رئيس الحكومة في موضوع التعويضات المتبادلة بينه وبين مدير الضرائب بنسودة، أو حزب الأصالة والمعاصرة الذي كان ينتظر أي فرصة لتحطيم الأغلبية الحكومية فبالأحرى أن يساهم في ترميمها، أما الخيار الثالث فهو إعلان فشل حزب العدالة والتنمية في تشكيل التحالف وتسليمه مفاتيح الحكومة ليكون سقوط الإسلاميين حلقة أخرى من حلقات السقوط الذي لازمهم بعد أن حملهم الربيع العربي على الأكتاف إلى السلطة في بلدان أخرى.

بعد مخاض عسير كان حزب التجمع الوطني للأحرار هو قطعة الغيار الجديدة لبنكيران من أجل مواصلة المسار، حيث اعتبر ملاحظون أن قرار حزب الأحرار كان استجابة لإشارة من جهة ما دفعت مزوار للجلوس مع بنكيران الذي طالما اتهمه بأقدح النعوت في خرجاته التواصلية، قرار كان يحمل دلالات متعددة ليس أقلها رسائل منبهة إلى بنكيران بأنه في الحكومة وليس الحكم، وأن قوة الشعب وإرادته ليست هي المحدد لمستقبل السياسة في البلاد كما كان بنكيران يقول دائما في خرجاته التواصلية، وأن التصويت كآلية ديمقراطية وضعته على رأس الحكومة تقابله آليات أخرى ” ديمقراطية ” قد تضعه على الهامش مثل آلية التحالفات التي لا مناص منها، والتي فهم بنكيران أنها آليات تخضع للتعليمات أكثر مما هي وليدة قرارات حزبية مستقلة.

لقد كانت تداعيات انسحاب حزب شباط من الحكومة سلبية على أدائها، ودامت فترة الارتباك الحكومي حوالي ستة أشهر، احتاجت إلى مدة مثلها تقريبا كي يستقر الوزراء الجدد في مناصبهم، وهو ما أضاع زمنا حكوميا كان كفيلا بزيادة سرعة الأداء الحكومي بقيادة حزب العدالة والتنمية، لكن حسابات السلطة كانت سيدة المرحلة وأعادت السرعة إلى الصفر، فكان على بنكيران أن يسترجع ثقة الناس في قدرة حكومته على مواصلة المسار، حيث عمد إلى طرح مجموعة من المشاريع على رأسها دعم الأرامل ومشروع راميد إضافة إلى مشروع تعويض صندوق المقاصة بالدعم المباشر للأسر الفقيرة، فكان على السلطة أن تغير تكتيكها هذه المرة، إذ عمدت إلى فسح المجال أمام بنكيران لتقليص الدعم على المحروقات كخطوة أولى في أفق تنزيل مشروع الدعم المباشر، فكأن تمت الزيادة في الأسعار التي خلفت ردود فعل متباينة، لكنها عموما كانت سلبية حيث حاولت المعارضة الجديدة أن تجعل منها رصاصات قاتلة موجهة لصدر بنكيران، خصوصا وأن وزارة الداخلية كانت قد أعلنت عن صعوبة تنزيل مشروع الدعم المباشر نظر لصعوبة تحديد المستفيدين بدقة، وهو ما جعل بنكيران يظهر في صورة رئيس الحكومة الذي ينجح في فرض الزيادات ويفشل في دعم الفئات المحتاجة، حيث سارعت المعارضة إلى تذكية الشعور بالسخط الشعبي، لكن محاولاتها لم تكن بالنجاح المنتظر بالنظر لفقدان تلك الأحزاب لشعبيتها وأيضا للأخطاء التي راكمها حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي على وجه الخصوص خلال تدبيرهما للحكومات السابقة، حيث كانت هذه بالضبط أسلحة بنكيران للدفاع عن نفسه وفي نفس الوقت إحباط محاولات الحشد الشعبي لإسقاط حزبه من قيادة الحكومة.

الرابع من شتنبر …معارك المجالس المنتخبة مع البام

لقد كانت محطة الانتخابات الجماعية والجهوية الأخيرة محطة حاسمة في مسار حزب العدالة والتنمية، خصوصا وأنها أول محطة شعبية تقييمية لأداء الحزب الحكومي من جهة، وأداء مستشاريه في مختلف الهيئات المحلية المنتخبة، حيث كانت النتائج معاكسة تمام لآمال أحزاب المعارضة التي كانت تراهن على ” معاقبة ” الناخبين لحزب المصباح، حيث أعطت النتائج الرتبة الأولى في عدد الأصوات لهذا الحزب، والأكثر من ذلك اكتسح الحزب مختلف الحواضر الكبرى ذات التأثير الاقتصادي والسياسي في البلاد، بينما كان حظ أحزاب المعارضة أصوات العالم القروي الذي يعتبر أغلب الملاحظين أنه خزان انتخابي للأعيان وأن التصويت في ذاك المجال الجغرافي لا زال خاضعا لاعتبارات كثيرة غير اعتبار الموقف السياسي، وبذلك اعتبرت نتائج انتخابات الرابع من شتنبر تفويضا شعبيا لحزب العدالة والتنمية لمواصلة إصلاحاته، إضافة إلى رسائل أخرى أبرزها رفض الناخبين لكل ما تسوق له أحزاب المعارضة من خطاب مناوئ لحزب العدالة والتنمية وفقدانهم لثقتهم فيها، وبهذه النتائج يكون حزب العدالة والتنمية قد طوى نهائيا صفحة إثبات مشروعيته كحزب ذو

مرجعية إسلامية وفرض على السلطة أمرا واقعا يتمثل في عدم خضوع الحزب مستقبلا لأي مساومة من أجل تحجيم حضوره في المشهد السياسي.

لقد أدركت السلطة بحسها التوقعي أن حزب العدالة والتنمية سينتقل لمرحلة أخرى أهم سماتها محاولة تكريسه لنموذج متميز في تسيير الشأن العام، أخذا بعين الاعتبار حصوله على الأغلبية المطلقة في مختلف الحواضر الكبرى التي تعتبر مجالا لإبراز الحنكة في التسيير والاحتكاك اليومي بالمواطنين وكسب تعاطفهم عن طريق قضاء مصالحهم اليومية والرقي بمستوى ظروف عيشهم، وهو ما سيشكل دفعة أخرى قوية للحزب مع اقتراب الانتخابات التشريعية سنة 2016، فكان على السلطة التفكير في كبح جماح حزب عبد الإله بنكيران، حيث عادت مرة أخرى إلى تحريك لاعبيها في معترك التحالفات خصوصا على مستوى رئاسة الجهات الإثني عشر التي نص عليها النظام الجهوي الجدد.

فبعد احتلال حزب العدالة والتنمية للرتبة الأولى على مستوى مقاعد الانتخابات الجهوية، كان عليه تدبير عملية تشكيل مكاتب الجهات وانتخابات أعضائها، حيث كانت لحزب العدالة والتنمية إمكانية ترؤس أربع جهات من الإثني عشر المقررة في النظام الجديد، لكن الحزب وكخطوة لتعزيز الثقة بينه وبين حلفاءه الحكوميين، قام بتزكية مرشحين من التحالف الحكومي في جهات على أساس أن يستفيد من دعمهما لرئاسة جهات أخرى مثل الدار البيضاء وطنجة تطوان الحسيمة، لكن رئاسة هاتين الجهتين كانت لهما رمزية خاصة ومن شأن استفراد العدالة والتنمية بتسييرهما أن يعطيه دفعة قوية لانتخابات 2016 التشريعية، على اعتبار أنهما أكثر جهتين حاليا تلعبان أدوارا استراتيجية على مجموعة من المستويات، إضافة إلى أن هاتين الجهتين ترشح فيهما شخصيتان لمنصبهما دلالة قوية، فهما على التوالي مصطفى الباكوري الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة والذي ترشح لرئاسة جهة الدار البيضاء الكبرى، وإلياس العمري نائب الأمين العام لنفس الحزب أو الأمين العام الفعلي كما يذهب إلى ذلك مجموعة من الملاحظين والذي ترشح في جهة طنجة تطوان الحسيمة.

لقد كانت الجهتان المذكورتان حلبة صراع ليس من أجل الظفر برئاسة الجهتين، بل كانت معركة تكسير العظام بين بنكيران وإلياس العمري كما بدا واضحا من خلال مسار تشكيل التحالفات وغيرها، بحيث كان على السلطة أن تعزز موقع حزب الأصالة والمعاصرة وتستغل الفرصة لإرسال مجموعة من الرسائل لمختلف الأطراف مفادها أن حزب البام ما هو إلا امتداد للدولة في الحقل الحزبي، وأن حزب العدالة والتنمية لا يمكن أن ينتصر في معركة رئاسة الجهات مع قيادة الأصالة والمعاصرة، فعمدت مرة أخرى إلى اللجوء للعبة ” الماريونيط ” من خلال افتعال الطالبي العلمي نائب رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار لصراع مع حزب العدالة والتنمية حول رئاسة الجماعة الحضرية لتطوان، كي يبدو انقلاب الأحرار على ميثاق الأغلبية الحكومية برئاسة حزب العدالة والتنمية كرد فعل في إطار تلك

المعركة وبالتالي التصويت لإلياس العمري، وكذلك حزب الحركة الشعبية الذي خرج مستشاروه بقرار التصويت لإلياس دون مبرر، فيما نحا حزب التجمع الوطني للأحرار بجهة الدار البيضاء نفس المنحى بتصويته على مصطفى الباكوري ضدا على اتفاق الأغلبية، وبالتالي نجحت السلطة في نزع الجهتين الوازنتين من حزب العدالة والتنمية، في خطوة لإحداث نوع من التوازن فيهما خصوصا وأن حزب العدالة والتنمية حصد الأغلبية المطلقة في مختلف الجماعات والمقاطعات التابعة لهما ونجح في الحصول على رئاستها، وبالتالي كان على السلطة أن تقف حائلا دون استفراد حزب العدالة والتنمية بالجهتين والنجاح في قيادة نموذج متميز للتسيير قد يعزز مكانة الحزب ويقوده لاكتساح الانتخابات البرلمانية المقبلة والتمكن من ضمان أغلبية مريحة لتشكيل الحكومة القادمة، مما سيجعل السلطة أمام أمر واقع حاولت تفاديه منذ وضع المغرب خلال عهد الحسن الثاني أسس الديمقراطية ” الحسنية ” التي كان عرابها وزير الداخلية الأسبق ادريس البصري والقائمة على بلقنة المشهد الحزبي والتشكيلات الحكومية والهيئات المنتخبة، وجعل الأحزاب صنيعة الإدارة مكونا أساسيا من مكوناتها، عن طريق وضع نظام انتخابي يجعل التحالفات هي المحدد لمن يكون في القيادة وليس الرتبة المحصل عليها من حيث عدد المقاعد أو عدد الأصوات.

لقد كان حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه أمام مجموعة من المعارك التي لا يكاد يخرج من إحداها حتى يواجه أخرى، فمن معركة الوجود وإثبات المشروعية كحزب ذو مرجعية إسلامية دخل معترك الممارسة السياسية من داخل المؤسسات رغم كل ما يشوبها من عيوب ورغم توجس السلطة الدائم منه، إلى مجموعة من المعارك القيمية المرتبطة بالنقاش الذي كان يثار بين الفينة والأخرى حول نوايا الحزب لأخونة الدولة والمجتمع، وصولا لمعركة عرقلة الإصلاحات ومحاولة توريط الحزب في قرارات تمس القدرة الشرائية والمعيشية للفئات المتوسطة والفقيرة، وهي المعارك التي خرج من بعضها منتصرا فيما خرج من البعض الآخر بجراح طفيفة، إلا أنه استطاع تجاوزها ليدخل بعد تزكية الناخبين له في الانتخابات الجماعية والجهوية الأخيرة في معركة تكريس نموذج تسيير ناجح يعيد للمواطن الثقة في العملية السياسية في ظل توجس السلطة وتذمر لوبيات الفساد من إمكانية نجاح حزب العدالة والتنمية في إثبات قدرته على التسيير الناجح وإرساء نماذج تنموية في الجهات والمدن والجماعات التي نجح في ترؤسها.

الوسوم

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق