مجتمع

نظرات في الصلح الأسري وزواج القاصر

نظرات في الصلح الأسري وزواج القاصر
محاولة لرصد بعض مظاهر أزمة مدونة الأسرة في تحقيق الغايات على مستوى التطبيق

دة. خديجة فارحي  

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، المحمدية

تقديم: حماية الأسرة غاية كل التشريعات

تتصل الأسرة بمشاعر المحبة والتضامن والشهامة والرجولة والأنوثة؛ وهي قيم يستحيل تقنينها، والإفراط في ذلك يسهم في إنتاج الظواهر السلبية المضرة بالأسرة.

إن الحماية المنشودة للأسرة غاية من غايات كافة قواعد الضبط داخل المجتمعات، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، رسمية أو غير رسمية، فالقيم والتعاليم الدينية السماوية أو اللادينية، وجل المواثيق الدولية تولي مؤسسة الأسرة أهمية بالغة ومكانة رفيعة؛ (المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، و المادة 23 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، كلها تؤكد على أن الأسرة هي الخلية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة)، وهو نفس ما ذهب إليه الدستور المغربي في فصله 32، حيث اعتبر الأسرة القائمة على الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع، وأن الدولة تعمل على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها.

ومن الغايات الكبرى للمدونة -كقانون للأسرة- الحفاظ على استقرارها  وحمايتها من التصدع كمدخل لحماية حقوق الأطفال خاصة (ديباجة المدونة والمادة 70).

إذا كانت كل المواثيق الدولية والوطنية تنص على حماية الأسرة فهنا ينبغي أن نطرح سؤالا محوريا: هل استطاعت المدونة تحقيق الغايات المرجوة منها لصالح الأسرة المغربية ولو نسبيا في ضمان وضع طبيعي لها كقيد وأسر اختياري؟ أم ساهمت وعكس ما كان منتظرا في ضياع الأمن والاستقرار الأسري من جهة، والمس بحقوق الأطفال كأضعف حلقة في موضوع الأسرة من جهة ثانية؟

اخترنا كدائرة خاصة لمحاولة رصد بعض جوانب هذا الموضوع “الصلح الأسري وزواج القاصر”. فما هي معيقات تحقيق نظام الصلح الأسري للحماية المنشودة للأسرة عامة والطفل خاصة؟ وما قدر أهمية مبررات الإذن بزواج القاصر “الطفل” والإبقاء عليه حتى غابت غاية المبدأ وانزلق الاستثناء؟

وذلك ما سنحاول رصده من خلال المحورين التاليين:

المحور الأول: معيقات تحقيق نظام الصلح الأسري للحماية المنشودة للأسرة والطفل.

المحور الثاني: زواج القاصر “الطفل” بين غاية المبدأ وانزلاق الاستثناء.

  • المحور الأول: معيقات تحقيق نظام الصلح الأسري للحماية المنشودة للأسرة والطفل
  • نظرة أولى في نظام الصلح الأسري

أرقام مهمة تسائل مدى نجاعة النظام:

  • ضاعف قانون الطلاق حالاته لينتقل من 25852 سنة 2004 إلى 55470.
  • سجلت 27000 حالة طلاق تقريبا سجلتها محاكم المملكة سنة 2019.

–  سجلت 68995 حالة طلاق سنة 2020، (سجلتها المحاكم الابتدائية كقضايا طلاق للشقاق فقط إضافة إلى 24257 حالة طلاق اتفاقي، و 6611 حالة تطليق الخلع).

– أكدت إحصائيات لوزارة العدل أن محاكم الاستئناف سجلت 20372 حالة طلاق سنة 2020.

وفي سنة 2021 سجلت 20655 حالة طلاق. ومعطيات صادمة تؤكد 300 ألف حالة طلاق بمعدل 800 حالة كل يوم.

سجلت هذه الإحصائيات في ظل نظام صلح أسري قائم بذاته ومتعلق بالنظام العام، ومجموعة من الإجراءات الجوهرية خلافا للقانون القديم، لكنه مشتت يحتاج إلى تجميع في قسم أو فرع متخصص في أي هندسة لمشروع جديد لقانون الأسرة.

  • نظرة ثانية في قضاء الأسرة والصلح الأسري

في سنة 2020 بلغ عدد الأسر المغربية 8438212،  ويتوقع  أن يرتفع العدد إلى 13.7 مليون في أفق 2050، لكن عدد المحاكم الابتدائية ذات الصلة بالمنازعات الأسرية  بشكل مباشر أو غير مباشر هو فقط 84 محكمة، وعدد القضاة 5000 قاضي، وهناك 34 قسم قضاء للأسرة  كبناية مستقلة عن المحاكم الابتدائية أو أقسام ببعض المحاكم، لكن ليس كبناية مستقلة بالإضافة إلى المحكمة الاجتماعية بالدار البيضاء.

بالنسبة للعاملين في هذه المحاكم هم ليسوا قضاة وعاملين متخصصين، فقد توصلت دراسة لوزارة العدل إلى أن نصف العاملين بأقسام قضاء الأسرة من قضاة وأطر كتابة الضبط غير متفرغين للقيام بمهام قضاء الأسرة مما يتنافى مع فكرة التخصص (أقسام متخصصة دون عاملين متخصصين)، باستثناء الفوج الذي تخرج بعد صدور المدونة، ومنذ 2003 وإلى الآن ليس هناك أي  قضاة متخصصين في التكوين، وبخلافه هناك تكوين متخصص بالنسبة لقضاة المحاكم الإدارية والتجارية، وكأن الأسرة أقل شأنا وأهمية من الإدارة والتجارة.

هذه الوضعية المعقدة والتزايد المهول للقضايا يصعب المهمة على قضاء الأسرة  وقضاء الصلح، فأنتجت لنا قاعدة عامة متداولة مفادها: “المحكمة لا يمكن أن ترد طلب التطليق للشقاق”، في حين أنها ليست قاعدة شرعية أو قاعدة قانونية، لكن الذكاء القانوني للمخاطبين اقتنع بهذه الفكرة ويراها تتحقق يوميا في قسم قضاء الأسرة.

  • نظرة ثالثة:غرفة المشورة، مكان إجراء الصلح الأسري لاعتبارات خاصة

غرفة المشورة لها مفهوم مادي كقاعة ملتصقة بقاعة الجلسات العمومية يتداول فيها القضاة، وقد تحول إلى مدلول إجرائي محض، فصار مكاناً تنعقد فيه الجلسات استثناء من مبدأ العلنية، ولهذا اختاره مشرع  مدونة الأسرة خدمة لفلسفته في قضايا الأسرة، وللإسهام في الارتياح النفسي للأطراف  من جهة، والعاملين على الصلح من جهة أخرى، بعيدا عن الصورة النمطية للتقاضي بما في ذلك الأطفال، لكن من زار المكان سيشعر أنه لا يمت بصلة للهدف المخصص له شكلا وهندسة  وتأثيثا وألوانا… دون أي اعتبار لخصوصية عمل قاضي الصلح التي هي مهمة إنسانية، والأطراف والمتدخلين، وطبيعة النزاع، والمهمة الإصلاحية.

 

  • نظرة رابعة: المتدخلون في الصلح الأسري والمؤسسات المرصودة للصلح

أولا: مؤسسة الحكمين

احتفظت بها المدونة كمؤسسة للصلح نظرا لخصوصيتها الدينية، وقد كان فيها مزج بين الشرع والقانون، واحتراما لما يميل إليه المغاربة في مرجعيتهم الدينية الإسلامية، فهي آلية قانونية لمساعدة القاضي في حل الخلاف بين الزوجين في الطلاق والتطليق، فقد جاء في الفقرة الثانية من المادة 82: “…للمحكمة أن تقوم بكل الإجراءات بما فيها انتداب حكمين…” وفي المادة 95، لكن لا تعريف ولا تحديد للشروط الواجب توفرها في هذه المؤسسة، فهي  تعاني من فراغ تشريعي بخصوص كيفية اختيار عضويها أو طريقة تعيينهما، مما يفرغها من محتواها ويجردها من أية أهمية ودور حقيقي، فتكون بذلك مؤسسة شكلية.

ثانيا: مجلس العائلة

هناك تنصيص عليه  دون تنزيل فعلي رغم وجود مرسوم منظم لمهام المؤسسة وهو رقم 88ـ 04ـ 02،  لكن دوره يبقى دورا استشاريا فقط، بالإضافة إلى عدم تحديد المرحلة التي يجب أن يتدخل فيها، وكذا الجهل بأهميته من جهة الأطراف، وكذا صعوبة تشكيله مما يفرض إعادة النظر في التنظيم القانوني له، ومن تراه المحكمة مؤهلا لإصلاح ذات البين، فالأمر هنا فضفاض وعام، وليس له أي محددات، وينبغي تخصيصه بدور المساعدة الاجتماعية والمجالس العلمية.

 ثالثا: الدفاع والدور المهدور في المساعدة على تحقيق الصلح الأسري

هناك دور آخر وهو دور المحامين، لكن ما يحدث نحس معه وكأن هناك منافسة بين قضاء الصلح والمحاميين في تحقيق الربح من خلال هذه المهنة الحرة، لكن قيم المهنة والقانون 08ـ 28 والمادة 43 تنص على حث المحامي مُوكلَه على سلوك طريق الصلح أو باقي الوسائل قبل اللجوء إلى القضاء.

  • نظرة خامسة: في الدور الاستشرافي للوساطة الأسرية الغائب نصا والحاضر عملا في فعاليات المجتمع المدني ونقاشاته

يمس دور الوساطة في المجال الأسري كل الناس وليس الأسرة وحدها، فيتجاوز حدودها، إذ الوساطة آلية لتخفيف عبء قضاياها عن المحاكم (القضاء عامة والقضاء الأسري خاصة)، والأسرة في حاجة للتدخل السلمي لحل نزاعاتها نظرا لخصوصياتها وخصوصيات نزاعاتها خارج أسوار المحاكم.

الوساطة الأسرية نظام استراتيجي في بعض الأنظمة المقارنة

توسط شخص ثالث من أجل حل المنازعات كتقنية حديثة نسبيا دخلت من مجموعة من الأنظمة القانونية، فهناك نموذج لدولة البحرين: (قرار رقم 96 بشأن الوساطة في الشؤون الشرعية، وسيط معتمد طبيعي، أو اعتباري، أو وسيط خارجي متفق عليه، أو مكتب التوفيق الأسري التابع للوزارة). هذا النظام يسمح لمكاتب المحاماة والقضاة المتقاعدين بمزاولة دور الوسيط الأسري، وتشجيع القضاء للأطراف المتنازعة على الأخذ بالوساطة الشرعية في أية مرحلة من مراحل الدعوى. فنظام الصلح الأسري ليس وساطة أسرية، وقاضي الصلح ليس وسيطا، ومؤسسة الحكمين ليست وسيطا، ونموذج  البحرين يستحق الاستفادة منه.

الوساطة الأسرية غائبة في النموذج المغربي، مما يجعل المأسسة ضرورة في أي تصور لقانون الأسرة المقبل.

المحور الثاني: زواج القاصر “الطفل” بين غاية المبدأ وانزلاق الاستثناء، مبرر حماية مصلحة تضرب في العمق مصالح الطفل

  • نظرة أولى في مثالية النص وتبرير الاستثناء

فالمادة 19: “السن القانوني لإبرام الزواج كتصرف قانوني 18 سنة للفتى والفتاة مع التمتع بقواهما العقلية”.

الأطفال لا يتوفرون على أهلية في جميع القوانين إلا ببلوغ 18 سنة، لكنها ستحضر بمباركة قانون الأسرة ويقررها القاضي.

المادة 20: “قاضي الأسرة المكلف بالزواج، يأذن بالزواج لمن دون ذلك بمقرر يتضمن الأسباب والمصلحة التي تبرر الإذن، وذلك بعد الاستماع للأبوين أو نوابهما، والاستعانة بخبرة طبية سطحية في أغلب الوقت أو إجراء بحث اجتماعي.

المادة 21 تربط زواج القاصر بموافقة النائب الشرعي وبالتوقيع مع “الطفلة” على الطلب، والموافقة تنتقل لقاضي الأسرة في حالة امتناع النائب الشرعي.

أخطر ما في الأمر نتيجة تجاوز منح الإذن بزواج القاصر إلى أهلية أبعد وهي أهلية التقاضي، فالمادة 22 تعطي الأهلية للمتزوجين في حق التقاضي في كل ما ذي صلة بعقد الزواج.

والواقع  في سنة 2017 تسجيل 26 ألف حالة زواج للقاصر، وفي سنة 2019 وصل الرقم إلى 19 ألف حالة، أكثر من 80% إلى 90%  من طلبات الاستثناء يتم قبولها من طرف القضاة.

  • نظرة ثانية: في الاستثناء الذي يجلب مآسي إضافية وصعوبات عديدة
  • الأبوان والعائلة والأعراف والتقاليد:

ظاهرة تزويج القاصر لا تنفذ فقط من ثقب وثغرات قانونية، بل من ظروف مزرية وواقع اجتماعي متشابه (الفقر، والجهل، والهشاشة)، ودور الأعراف والتقاليد حسب دراسة ميدانية نفذتها رئاسة النيابة العامة يشكل نسبة 44،08 %، كما وجدت الدراسة كذلك أن 15% من طلبات ثبوت الزوجية تخص الأذونات الخاصة بزواج القاصر.

الغريب أن وزير العدل تحدث عن نسبة 7 في المئة من حالات زواج القاصر في منطقة الدار البيضاء وليس فقط القرى.

  • الخبرة والبحث الاجتماعي:

هنالك ضعف كبير في توظيف المساعدين الاجتماعيين بالمحاكم لإجراء البحوث الاجتماعية حول القاصرين المقبلين على الزواج، فنسبة البحث مع القاصر والخاطب بلغت 89.20%، أما مع القاصر فقط فقد بلغت  10.78%.

  • نظرة ثالثة: في غل يد النيابة العامة رغم مجهودات رئاسة النيابة العامة
  • غل يد النيابة العامة في موضوع الإذن بزواج القاصر

لا توجد إمكانية قانونية لاستئناف قرار قاضي الأسرة بالإذن بزواج القاصر، وفي هذا تهميش لمكانة الجهاز في المدونة، ويضرب فلسفة تمثيله للمجتمع والمصالح العليا له.

 ورغم ذلك، فرئاسة النيابة العامة أبرمت اتفاقية إطار شراكة مع وزارة التربية للحد من الهدر المدرسي والوقاية من زواج القاصر في مارس 2021، وكانت الحصيلة الأولية إرجاع 21 ألف فتاة الى فصول الدراسة، لكن مجهود النيابة العامة لا يكفي بل يجب رفع هذا الاستثناء وتجريم زواج القاصر للتفرغ لمشاكل القاصرين الأخرى في التعليم والجهل والصحة النفسية.

 

خاتمة

يتميز نظام المساعدة الاجتماعية بضعف التكليف وصعوبة المهمة، فضعف ثقافة الوسائل البديلة عن القضاء في مقابل انحراف المسطرة الخاصة بالطلاق وبالصلح الأسري  عن غاياته، والتعالي عن تدخل آليات الصلح  خاصة من طرف النخبة، إضافة إلى ضعف المساعدة النفسية ومؤسسة الوساطة الأسرية، وكذا ضعف استثمار موقع المجالس العلمية المحلية كهيئة شرعية نبيلة لا زالت محط تقدير واحترام عند الكثير من المغاربة من أجل توحيد سنّ الأهلية دون استثناء تحقيقا لمقاصد الشريعة على مستوى الأسرة، ولحفظ الضروريات الخمس: الدين، النفس، العقل، المال، العرض، ولم لا تجريم زواج القاصر سدا لمداخل عديدة للظواهر الاجتماعية السلبية.

 

 

 

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق