مقالات الرأي

من العوائق البنيوية أمام المسألة الديمقراطية بالمغرب

من العوائق البنيوية أمام المسألة الديمقراطية:
1) بِـنية الحُكم في المغرب الراهن:
لقد كانت لحظة إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم يوم 20 ماي 19600 حبلى بالدلالات على أنّ تحوّلاً سلبيا ستعرفه دار الـمُلك، وبدا من حكومة ولي العهد آنذاك، والذي أحاط نفسه بأقطاب القوّة الثالثة، وافتكَّ لشخصه مفهوماً للسلطة ولج به عصر ما بعد الاستقلال، ورسّخ من خلاله للملكية التّنفيذية. ولا غرو في ذلك؛ فقد كان “أكثر الملوك الذين اعتَمَدُوا نظام حُكم فَردي مُطلق في تاريخ المغرب، منذ السّلطان المولى إسماعيل، فأيُّ نَقْدٍ يُوجَّه إليه كان يَشتمُّ فيه رائحة مؤامرة تحاك في الخفاء” كما يقول موريس بوتان، وأيُّ تحرّكات ومطالب في اتجاه تخفيف مَـرْكَزَة الحكم أو تقوية دور البرلمان أو فصْل السًّلطات أو انتخاب حكومة وحدة وطنية بانتخابات حرّة ونزيهة؛ كان يُعتَبَر مِساساً بمكوِّن ثابت في السياسة المغربية، وتهديد حقيقيٌّ لمكانة الملك، تماماً كما كان يَهمِسُ في أذن والده محمدا الخامس ما بين 1958 – 1960 بأنَّ الحكومة اليسارية بقيادة التّقدُّميين الاتحاديين، ورئاسة المجلس الاستشاري الوطني بقيادة اليساري المهدي بن بركة تُهدِّد عاجلا غير آجل العائلة العلوية والعرش !
إنّ طبيعة (الحكم الفردي) شكّلت بنية مضادّة لآمال ومطالب بناء صرح ديمقراطية واقعية، ولا أدلّ على ذلك مِن مثال أحد أصدقاء الملك الذي سيجسّم نموذج الحكم الفردي في بدء عهد حكم الحسن الثاني، إنه (أحمد رضا كديرة) الذي أصبح غداة 1961 “رئيس الحكومة القانوني، ومديرا عاما للديوان الملكي، ومديرا لديوان رئيس الحكومة (الملك)، ووزيرا للفلاحة، ووزيرا للدفاع، ووزيرا للدّاخلية، ووزيرا للخارجية بالنيابة. وهكذا كان اكديرة يشخّص الحكم الفردي في المغرب، وبهذا يكون الملك قد اختار الحكم الفردي على الحكم الدّيمقراطي الذي ألحّ عليه الاتحاد”، والوجه الآخر لذلك إقدام الملك على “عَزْل عدد من القوّاد والباشاوات والعُمّال ليُنصِّب الحُكم الفردي مكانهم قواداً وباشاوات وعمّالاً يطمئنُّ إليهم أكثر من غيرهم. وهكذا بدأنا نُشاهِد بعض الذين لهم سوابق ضدّ الوطن والعرش يعودون ليتقلّدوا مناصب في الدولة ربما هي أحسن وأرفع من المناصب التي كانوا يتقلّدونها أيام الحماية” كما يؤرخ لذلك الجابري.. وما أعقب ذلك مِن إصدار القانون الأساسي للمملكة الذي قطع به الحسن الثاني الطريق على “المجلس التأسيسيي لصياغة الدّستور”، الأمر الذي جَعَل المهدي بن بركة يُضمِّن تقريره الإيديولوجي (الاختيار الثوري بالمغرب) خلاصة قولهِ إنّ “السُّلطة في المغرب ذات طبيعة فردية مُطلقة، ورغم ذلك فإنّ المغرب هو البلد الوحيد في إفريقيا الذي يُعطي فكرة عن فاعلية جماهيره ومنظّماته”، كما يلاحِظُ بأنّ المملكة عاشت منذ إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم “في ظِلِّ سلطة شخصية، بعدما قضى الحُكم على آخر مكتسبات الشّعب، وأظهر لا شعبيته، ولكن الشّعب هو نفسه الذي أَرْغَمَ الحُكم على ذلك”.
إنَّ نموذج الحكم الفردي الذي كان ألهَب سياق المواجهة مع المعارضة، الممثَّلة أساسا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنواتٍ طويلة؛ كان يجدُ أصوله في عددٍ من المَظانّ، لعلَّ أدعاها للاستحضار رؤية الحسن الثاني ذاته لنمط الحكم، بحيث اعتبر طيلة مساره أنّ “الملكية في المغرب مؤسسة عريقة يلتقي تاريخها بتاريخ الدولة في المغرب، إنّها مؤسسة شعبية، بمعنى نبوعها من الشّعب، وإنّ الأمر فيها يتعلَّق بشرعية تُستَمَدُّ من قوّة التعاقد الاجتماعي على النّحو الذي يُفيده عَقد البيعة وتشرحه مقتضياتها. ذلكَ العقد الذي يفرض أن يملِك الـملِكُ ويحكم في الوقت ذاته (..) وهي لا تملك الانفكاك من ماهيتها الإسلامية، وهذه يُحدِّدها ويُشرِّعه لها عَقد البيعة، إذ هي ثِقةٌ يهبُها شعبٌ ما لملِكِه. لذلك فالملك لا يملِكُ أن يتخلّى عن تلك الوديعة عن طريق التّنازُل والاستقالة مثلًا، ولا عن طريق التّفويت الشامل لشؤون الحكم ولا الخطير من أمور الدّولة (..)، والخلاصة التي يكون الانتهاء إليها وُجوباً في الحديث عن الدّيمقراطية، أنَّ الدّيمقراطية يَلزَمُ أن تكونَ _ في تصوّر الملك _ ثمرة مسيرة تاريخية فعلية لا خيالية، وأنْ تكون نتيجة اختيار حضاري أصيل يجدُ في التّاريخ الذاتي للأمّة قاعدة يستقرّ عليها. وبالتالي لا ينبغي للديمقراطية المغربية الحقّ أنْ تكونَ مَحْضَ تقليد سخيف لإيديولوجيات مخالِفة، الباعثُ عليها مسايرة التيارات الـمُبتَذَلة. ولعلَّ الذهاب بهذا المنطق الأخير إلى غايته القُصوى، ومتابعة حركية القَبض والبَسط التي كانت تميِّز علاقة الملك طيلة عقود ثلاثة من تاريخ المغرب المستقلّ؛ هو ما حَمل (عبد الله العروي) على أنْ يقول عن الحسن الثاني إنّه ‘قد نسيَ أنّه كان ملكا، بل ملكا مغربيا فوق كل هذا، ومن حيث هو كذلك؛ فقد كان يلزمه الانصياع لنوع من الأخلاقية’، ثمُّ يُضيف: ‘ربّما كان أكثر عصرية وثقافةً وتأثُّراً بروح العصر من أنْ يكتفي بهذا الدّور، لقد أصبح يتصرّف كما لو كان زعيماً، وقد كان ذلك هو الدّور الذي اعتاد خاصَّتُهُ أنْ يَرَوْهُ فيه’ (..)
إنّ تقويم العمل السياسي للحسن الثاني والحُكم على المحاولة الديمقراطية في المغرب خلال العقود الأربعة التي تَلَت الاستقلال؛ يستدعي النّظَر إلى الممارسة في السياق التاريخي العام، سياق الحرب الباردة وانعكاساتها البعيدة على البلدان العربية خاصة..”، دون أن يُبرِّرَ هذا القولُ الأخطاء التاريخية الصّلبة لنموذج حكم الفرد المطلق، ونُزعات التسيُّد التي طبعت الحسن الثاني وفترة مُلكِه، مما جعل منها عائقاً بنيوياً في طريق الانتقال الديمقراطي بالمغرب.
ويمكن حصر الأطروحات التي تناولت طبيعة بنية الحكم في المغرب منذ الاستقلال وإلى اليوم؛ في ثلاث وهي:
– الأطروحة الانقسامية: وكما يلخّصها صاحبها (جون واتربوري) في كتابه الشهير “أمير المؤمنين والنخبة السياسية المغربية”، بحيث ينطلق فيها من تصوّر النظام السياسي المغربي كبِنية تقوم على تعددية في الفاعلين السياسيين، يشكّلون تحالفات مؤقتة ومتقلبة، هذه التعددية تتسم أيضا بغياب فاعل سياسيٍّ رئيسي قادر على إلغاء منافسيه. هذه البنية سوف تساهم في استمرار النظام السياسي دون أنْ تُلْحِق تغييرات في أسس البنية.
– أطروحة الصراعاتية: ويمثّلها جيل الماركسيين الذين يَنظرون للنظام السياسي كأداة للسيطرة الطبقية، وتمثيلٍ لمصالح الطبقة السائدة على حساب الطبقات المَسُودَة، التي تحاول أن تنتزع مصالحها؛ الشيء الذي يُدخلها في صراع مع النظام القائم. ويمثِّل هذه الأطروحة عدد من الكتابات التقدمية، وعلى رأسها التقرير الشهير للمهدي بن بركة الذي يحمل عنوان (الاختيار الثوري بالمغرب).
– أطروحة الاستبدادية: والتي يُعدُّ الدكتور عبد الله حمودي أحد أبرز المُـعَبِّرين عنها، خاصة من خلال كتابه الذائع الصيت (الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة)، والذي يحاول فيه إقامة الربط بين طبيعة النظام السياسي وبين وجود بنيات ثقافية تقليدية ذات مرجعية تاريخية قديمة تجعل من السلطة السياسية متمَركِزة حول شخص واحد.. وتعتقد هته الأطروحة أنّ النظام السياسي يستند إلى مقوِّمات ثقافية تمارَس في شكل طقوس تُكَرِّس في ذاكرة المحكوم علاقات أنطولوجية مبنية على الخضوع وإعادة إنتاج السلطوية بمفهومها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي.
وعليه؛ وإذ لا يُسعِفنا الجزم في هته العجالة بكَون المسألة الديمقراطية في المغرب الراهن مُحاطة بجُملة من العوائق تُعدُّ كوابِح أمام تحقُّقها الذاتي والموضوعي؛ إلا أن الوقائع السالفة والحالية، تُبين عن وجود عوائق هي في العمق (بِنيوية)، تستدعي تشخيصا ونقدا ومعالجة جماعية.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا، وأبرِم لنا أمْـر رُشْدٍ، وَوَلِّ أمورنا وشأننا العام خيارنا وعقلاءنا.

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق