آخر

خواطر سدراوي: جروح الطفولة لا تندمل حتى لو أصبح صاحبها أستاذا جامعيا

الدكتور عزيز سدراوي

ذات يوم، صديقي بقسم الابتدائي، و هو اليوم أستاذ للتعليم العالي، وعدتهم المعلمة برحلة مخصصة للتلاميذ الأوائل بالمدرسة وستكون هذه الرحلة لزيارة المطار كي يروا الطائرة لأول مرة.. وكان حينها جد متفوق وقد حصل على المرتبة الأولى على مستوى المدرسه بمعدل 09.50 .. اجتمعوا صبيحة الجمعة أمام المدرسة كي يذهبوا للرحلة، وكان على يقين أنه من الذاهبين كونه الأول .
‏جاءت الحافلة.
كانت تتسع لعدد محدود من الأماكن. حينها اختارت المعلمة التلاميذ الذين كانوا يلبسون أحسن لباس ويحملون حقائب بها جميع مستلزمات السفر من أكل ومشروبات وقطع الحلوى وفواكه. وغضت عن الباقي البصر كونهم فقراء لا يلبسون الجديد و يحملون أكل متواضع في أكياس سوداء، ووعدتهم بأن الرحلة القادمة ستكون مخصصة للذين لم يذهبوا في ذلك اليوم.
‏في تلك الصبيحة طعن صديقي العزيز أشد طعنة!! لم يستطع إلى اليوم القدرة على تقبل الصدمة غير المتوقعة أبدا !! وبقي صامتا صامدا ينتظر تراجع المعلمة عن قرارها الخاطئ.
‏ولكن الحافلة أقلعت وكل الأطفال الذين بها كانوا في فرح وسرور!!
‏مكث غير بعيد عن باب مدرسته. وبكي نعم بكي بكاءً لم يبكيه قط لا قبل و لا طبعا من بعد.
‏يقول: “كرهت معلمتي، ولعنت المصنع الذي سرّح أبي من العمل وتركنا فقراء، حزنت على كيسي الأسود الذي وضعت فيه أمي الخبز وحبات الطماطم والخيار وساندويش الجبنة بالزعتر”.
وتذكر أنه لعن صاحب الحافلة الذي لم يتسع له المكان بعربته اللئيمة، كره ذلك الصباح بقوة.
‏حمل أثقاله المنهكة ولملم أجزائه المبعثرة، وقرر العودة إلى البيت كي يصرخ بحرية أكثر.
‏وفجأة تذكر مبلغ الرحلة الزهيد وكيف سيخبر أباه أنه لم أذهب، وأن المبلغ قد ذهب مع الذاهبين!! كيف سيخبر أمه أن إزعاجات الأيام السابقة وإلحاحه المتواصل لهما بالأمس وحماسه الكبير قد اغتيل واغتصب.
‏بقي في حيرة لمدة، ثم فكر في كذبة أن صاحب الحافلة حين قدومه، اصطدم بشاحنة ومات، ولأجل ذلك لم نذهب، فكرة صبي متذمر و تفكيره مشلول.
‏وانصرف
‏في ذلك اليوم.. لم تشأ صورة المعلمة أن تذهب عن مخيلته وهي تبرأ ذمتها الدنيئة.. وهي تحمل أطفال عزل وزر عدم ترتيب هندامهم البالي.

لم يستطع أبدا نسيان تبرير فعلتها بأن قائد الطائرة لا يقبل أن يراهم هكذا مذبذبين مبعثرين مشردين، لم يستطع نسيان طعم الوجع.
‏في ذلك اليوم.. تعلم أن كل الوعود كاذبة، تعلم أن حتى المعلم الذي يأمرنا ألا نكذب..سـيكذب!!
‏وأطلق نداء هو إلى اليوم مازال يردده و قد سالته عن مغزاه فروى لي الحكاية:
“لا تقتلوا الجانب البريء فينا بأفعالكم”

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق