سياسة

تصورات مغاربة العالم حول “المقاطعة”.. محام يعدد أبرز مآلات وأهمية الحملة

أحمد بنسعد

محام وفاعل جمعوي من مغاربة العالم

إنه لمن دواعي الغبطة والسرور أن يكون لديك شعب حي، جدوة الاحتجاج مشتعلة  وهاجة  فيه رغم محاولات التدجين والتسطيح الذي تخضع لها مجتمعات  كثيرة.

إن المقاطعة كسلوك اجتماعي وكرسائل سياسية لا يمكن لنا إلا وأن نقف إجلالا لهذا الشعب المعطاء والمبدع لها ولكل أشكال الرفض.

عندما يغيب على النظام السياسي الحاكم  مآلات الانقلاب الأبيض على الارادة الشعبية المعبر عنها في صناديق الاقتراع على قلة انتاجها للسياسة، وتغييرها بإرادة مدجنة أو قابلة للتدجين المذل كي تصبح إرادة   “لايت” تتماشى أو تتماهى مع تصورات الرأسمال الوطني نسبة للوطن وليس للوطنية والرأسمال العابر للقارات، فإنه يقع هذا الانفلات خارج المؤسسات لإن التآمر على مؤسسات الوساطة الاجتماعية وتفريغها من محتواها السياسي الضامن للاستقرار ومأسسة الصراع الاجتماعي سيجعل الشعب يبتكر أشكالا جديدة ومبدعة تحتاج إلى من يحتضنها حتى لا تنقلب مآلاتها ضد الشعب.

ومن هنا وجب  التطرق إلى بعض التساؤلات الجريئة بهذا الخصوص والتي نطرحها من باب المتتبع الغيور على بلده ومحاولة تأطير هذا الاحتجاج الافتراضي أو بصيغة أدق في العالم الافتراضي.

أولا.. قبل كل شيء المقاطعة تعني إفلاس مؤسسات الوساطة الاجتماعية، ويعتبر سلوكا نوعا ما متطرفا لانه لم يبقى لدى كثيرين أي وسيلة أو فضائات للتعبير عن رفضهم للأثمان الباهضة لبعض المنتوجات. لنذهب مثلا لمادة الحليب، أولا هل الحليب الذي نشربه “سونترال” أو “جودة”  تتوفر فيه معايير التغدية، وهل فعلا عيش السواد الأعضم من المغاربة  متوقف على الحليب ومشتقاته؟.

لا ننسى أن حليب “جودة” استغل المقاطعة لإدخال الاف الأطنان من الحليب المجفف الذي لا ندري مدة صلاحيته وبيعه على أنه حليب طري، هذا احتقار للمغاربة والتعامل معهم كبقر وليس كأدميين.

عندما يتم الخلط بين المال والسلطة ولا توجد ضوابط للحد من هذا الخلط فإنه يستحيل أن تتجاوب الدولة مع مطالب المقاطعين لأن الدولة بمؤسساتها لم تعد نزيهة ومحايدة ومنظمة للعملية الاقتصادية بل أصبحت بأذرعها الظاهرة والخفية تحارب طرفا وتساند طرفا آخر بدون تصور وطني للتدخل  وغالبية المواقف مرتجلة.

في تصور الإنسان البسيط، الانطباع العام   أنه لا يجدي نفعا انتظار أي شيء من البرلمان أو الحكومة أو النقابات وحتى الاعلام الذي أصبح  مأجورا  يجند ضد الشعب وسلوكه الاحتجاجي.

عندما يكون وزير في الحكومة ومالك لأكبر شركات توزيع الغاز والبترول فإنه لن يدعن لمطالب المقاطعين، وكيف به أن يفعل وهو الوصي كذلك  على القطاع الفلاحي الذي بعد تصريح  رئيس المجلس الاعلى للحسابات كان لزاما عليه، إذا كان لديه أدنى قدر من النزاهة السياسية،  تقديم استقالته.

ثانيا.. إن تحديد هدف المقاطعة في تخفيض ثمن الحليب أو “سيدي علي” أو المنتوجات البترولية فقط  لا أظن أنه تصور شامل لأن تخفيض الثمن يجب أن يكون بموازاة مع الحفاظ على الجودة وإلا فإن التخفيض لا معنى له وفي نفس الوقت  الحفاظ على منظومة من الانتاج تبدأ بالفلاح الصغير مرورا عبر الوسطاء إلى المنتج النهائي وصولا الى المستهلك.

لكن عندما تقوض الدولة كل أشكال الاحتجاج المنطم فإن المقاطعين لا يأبهون بهذه الجزئيات لإن هناك انعدام ثقة خطير في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

للحفاظ على نتائج المقاطعة يجب التأكيد على أن المقاطعة ليست موجهة ضد شركة معينة، فالاختيار كان بعناية شركتان مغربيتان وشركة فرنسية، وهي رسالة إلى كل المستثمرين على أن التعويل على الدولة وحدها غير كافي للنجاح في أسواق معينة و أن الاحتكار لم يعد مقبولا أو ينطلي على أحد ، وبالتالي فالحكومة ومؤسسات الحكامة التابعة لها لديها فرصة ذهبية لوضع القوانين المحاربة للاحتكار والداعمة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة حتى لا يلتهمها اللوبي الاقتصادي.

ثالثا .. المقاطعة يجب أن تستمر كسلوك للاحتجاج  مادام هناك تهميش لدور المواطن في المساهمة في صياغة النظام السياسي الذي يحكمه وعدم احترام ارادته المعبر عنها في الانتخابات، لإنه قد تكون هناك مقاطعة للسياسية  كمنتوج رديء وباهض وآنذاك يفتح الوطن على المجهول.

رابعا.. المقاطعة كتعبير لذكاء جماعي للمغاربة يجب أن نحرص على أن تبقى كاحتياط استراتيجي للمغاربة في الدفاع عن المحرومين والمستضعفين ومواجهة كل أشكال الفساد  بأشكال راقية.

خامسا.. نحن نعلم أهمية الاستثمار الخارجي  في اقتصادات الدول، لكن في الوقت نفسه نؤكد ، وبدون مغالطات ، على  أن الذي يطرد المستثمر ليس المقاطعة وإنما الاحتكار  والفساد وانعدام الضمانات القانونية للمستثمر، لأن لطبيعة راس المال انه جبان، وبالتالي  لا يمكن أن نقبل بأن  توضع قوانين على المقاس، ونضرب مثلا قانون التعويض عن حوادث السير الذي يعود إلى سنة 2004، هو نوع من السرقة الموصوفة بدليل أن بعض الضحايا   يتم تعويض ذويهم ب 30000 درهم ، هذه هي قيمة المواطن المغربي مع العلم أن ثمن التأمين تقريبا نفسه في الدول الاوربية، وإذا حكمت لك محكمة بهذا التعويض فاطلب الله أن يرزق ذويه طول العمر حتى يتمكنوا من الحصول على التعويض.

هذه الاختلالات  يجب أن نستمر في الضغط على ان يتم القضاء عليها.

المقاطعة يجب أن تستمر وأن نحافظ عليها من كل محاولات الاحتواء  مادامت مؤسسات الوساطة الاجتماعية غير موجودة أو غير مفعلة.

الغريب في الأمر أن من يحكموننا  يحتقرون الشعب لدرجة العداء على ما أظن، وما مصطلحات “المداويخ” و”الخونة” إلا دليل على طبيعة هذه  النخب.

نحن كمغاربة العالم  ألا يحق لنا مثلا  أن نقاطع شركات النقل الجوي والبحري، ألا تعتبر الاثمنة  نوع السرقة بالسلاح ، ابهذا نكافأ على حبنا لوطنا ولزيارته،  هل اصبح حب الوطن فرصة لاصطيادنا ؟ .

وفي الأخير،  أقول أن البديل في طور الانجاز  و ما المقاطعة إلا أحد مراحله، فتحية لكل مقاطع واعي بسلوكه الاستهلاكي  وقيمته السياسية ما دام الاستهلاك في المنظومة الرأسمالية هو الركن الضروري كي تكتمل الدورة الاقتصادية بعد الانتاج.

فهنيئا لهذا الذكاء الجماعي وتحية تقدير لكل المقاطعين والمقاطعات.

بعد كل هذه الانجازات، البسيطة في الوسائل والمبهرة في النتائج، وجب علينا  أن نكون حريصين  على هذا الفعل الاحتجاجي،  و أن نحصنه ونحافظ عليه وأن لا يستنفذ كل قواه.

إن المقاطعة لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، يجب على المقاطعين  أن يقيموا المرحلة بانجازاتها واخفاقاتها ،  بعناصر قوتها وضعفها ومحاولات اختراقها او احتوائها، وذلك من أجل المحافظة على نفس المقاطعين وتحديد الأهداف بعناية التي لها تاثير مباشر على درجة استنفار  الشرائح الاجتماعية التي لم تواكب المقاطعة.

يجب على المقاطعة أن لا تكون مقاطعة هواة، بل تكون مقاطعة محترفين  حتى تساهم في الدفع نحو إرساء قواعد  الشفافية والتنافسية الحقيقية التي يتساوى فيها كل الفاعلين الاقتصاديين وذلك من أجل تجويد المنتوج، و إعادة إعطاء المبادرة للمقاولة الوطنية الوسطى والمتوسطة لأنها هي أكبر مشغل في البلاد وأكبر ضامن للاستقرار وأكبر منتج للثروة  وفي الأخير هي  الاقتصاد الحقيقي.

وبالتالي فإن هذا يجرنا إلى ضرورة ربط العلاقة مع الفاعل السياسي  ولو بشكل غير مباشر، لإنه  المتوخى هو أن تخرج نتائج هذه المقاطعة في شكل اجراءات وقوانين ومراسيم تحد من الاحتكار وهيمنة بعض اللوبيات على الاقتصاد الوطني، وجعل الدورة الاقتصادية دورة من إنتاج  اقتصاد السعادة،  économie de bonheur.

هذا التقييم ضروري لهذا الفعل الاحتجاحي لإنني أتمنى أن تكون  المقاطعة وتبقى في نظر كثيرين وسيلة وليست غاية وسيلة  لأنها حركت المياه  الراكدة  في البركة المغربية، وخيبت آمال من قالوا أن 20 فبراير كانت سحابة صيف عابرة ووجب إغلاق قوس الربيع العربي.

استراتيجيا يجب المحافظة على الذات المقاطعة لأن أسباب المقاطعة مازالت كثيرة وفي مجالات كثيرة لأن الاختلالات هي القاعدة والنظام هو الاستثناء.

هناك نقطة أخرى يجب تحليلها وهي تركيبة الجسد المقاطع، لإنه مشكل  من  كل أطياف الرفض الاجتماعي،  وبالتالي يجب تأطير هذا الجسد للحفاظ على عافيته حتى يكون الضامن للإصلاح  والتغيير والدمقرطة وإدماج أكبر للشرائح الاجتماعية التي كانت خارج الدورة الاقتصادية و وخارج التوزيع العادل للثروة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق