مقالات الرأي

محمد ابن ادريس العلمي :عندما اعتبر الجابري التعليم “مشكلا”

تتبلور استراتيجية تحليل بعض الإشكاليات المتأزمة إلى بسط نظائرها بشكل يمنحنا أساليبَ للمقارنة ومداخل لتفسير الظواهر المتعلقة بها. لكن غمار هذا التحدي يصيبه المقتل إن افتقد للأدوات المنهجية وفشل في إيجاد نموذج تفسيري عميق يستطيع اختراق وتفكيك مجموعة من الأحداث التي لها علاقة مترابطة مع الإنسان كفلسفة مستهدفة؛ تحاول مجموعة من الأطراف تقويضها وتفتيتها وفقا لتصورات معلمنة وقادرة على ضرب جذور الثقافة المؤطرة له.

وقوفا على إشكالية التعليم بالمغرب ووصفاً قبل التحليل انطلاقاً من نموذج تفسيري يطرح مجموعة من الأسئلة في الابتداء لفتح المجال للإجابة عنها، نعتبر بأن ما يحاك للمجتمع المغربي فلسفة منطوية على سلوكيات قبلية تستخدمها القوى الاستعمارية لضرب عمق الانسان ومحاولة استيلابه وإرهابه ثقافيا واجتماعيا عن طريق سياسة الموت البطيء، وضرب اللاوعي المؤطِّر للثقافة والقيم التي تربى عليها في بيئته المحافظة والمنفتحة بتصور ورؤية غير مصطنعة.

إن إشكالية التعليم اليوم انطلاقا من التصورات التي أحيطت بها على كافة المستويات من فرنسة وخيار التعدد اللغوي والتدريج ومجموعة من الإصلاحات “الكبرى” المغيبة لسياقات وحاجات المجتمع اليوم، تفرض علينا تحليل هذه الظاهرة التي تخترقنا في صمت رهيب عن طريقِ قراراتٍ سياسية مبرمجة في صناديق مغلقة في الخارج قبل الداخل؛ والتي تمتح من نظرية المؤامرة في شقها المتعلق بالاتفاقيات الموقعة عند الاستقلال.

تختلف نظرة الباحث عن نظرة السياسي والعامي إن صح التعبير، فالباحث يفكك عقدة المشكل إلى مساقات ومداخل يستطيع من خلالها فهمه وتخليله وتقديم تصور يقترب من النموذج الذي صيغ عليه، ويحفظ كذلك التراتبية في استنتاج المقتربات. أما العامي فيقف على سطح المشكل ولا ينظر إلى خلفياته السياسية ومداخله المتعددة. وإشكاليتنا التعليمية اليوم تطرح علينا سؤال النموذج الأول : هل تتوفر الدولة على إرادة سياسية؟ وقبل توفر هذه الإرادة هل نستطيع تقديم مخطط ورؤية استراتيجية؟ بعيداً عما تعكسه التقارير التي ترسلها وزارات التعليم في إطار الاتفاقيات لإعداد المخططات المهاجرة من الخارج نحو الداخل؛ وذلك بعيدا عن نهج فلسفة القاعدة الأصولية التي تقول بأن الواقع لا يرتفع ويجب الإنصات إليه لاستيعابه لا صناعته، وفقا لإحصائيات تقنية تعالج التعليم في بعده المادي السطحي من توفير للبنية التحتية … غيابُ هذه الرؤية الأولى التي تتوافق مع متطلبات المجتمع تبعدنا عن العمق المطلوب في معاجلة قطاع حيوي حاسم في البناء النهضوي للأمة.

إن كتاب “أضواء على مشكل التعليم” والذي أصر فيه الجابري على اعتبار التعليم “مشكلا” متسائلا “… ما هو هذا المشكل إذا؟ وما حقيقته وما جوهره؟ ما هي الكوامن الخفية التي تحركه من ذاته، ومن وراء ستار؟ … لقد اتخذ مشكل التعليم ببلادنا، ومنذ الإعلان عن الاستقلال، طابعا سياسيا واضحا، ليس فقط لأنه يمس الشعب كله، أو لأنه يقدم أحسن مطية تطرح من على متنها قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، بل أيضا لأنه يعكس بالفعل اختيارات تخص هذه الميادين نفسها، ويتضمن في جوفه، ومن خلال تطوره، أبعادا سياسية واجتماعية أثرت وتؤثر وستؤثر”.

الباحث يُقدر أن إشكالية التعليم لا يتحمل مسؤوليتها الوزير في حد ذاته بل ترتفع إلى رئيس الدولة باعتباره مسؤولا غير مباشر ومساهم في وضع التصورات وفرض الإرادة السياسية للإصلاح من عدمها وهكذا تترتب عن هذه المسؤولية علائق مرتبطة بالمشهد والتاريخ الذي تراكمت من خلاله بلورة إصلاح التعليم والسياقات التي مرت فيه.

هذه بعض الأسئلة المنهجية والتوجيهات التفسيرية التي تضع التعليم في مختبر لتحليل الإشكاليات وتوضيح الصورة الحقيقة للمشكل كما سماه الجابري، وكذا وضع السياقات في محلها لأن بناء منظومة تعليمية قوية تحتاج منا إلى فهم جميع التصورات واستيعاب خطر هذا الإرهاب الممارس علينا سرا من طرف النخب المعلمنة والفرنكفونية التي احتضنها الاستعمار، وقد زاد الطين بلة قابليتنا للاستعمار بتعبير مالك بن نبي وعجزنا الواضح الناتج عن قلة الوعي لفهم أبعاد هذه الوضعية والوقوف على ما يمكن العمل عليه حاضرا بله مستقبلا.

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق