مقالات الرأي

محمد المرابط : بين الوﻻء للأفكار والوﻻء للأشخاص والوﻻء للأشياء… فواصل ونقط

كل مجتمع إنساني يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية، هي: الأفكار والأشخاص والأشياء، وترتبط هذه المكونات الثلاثة فيما بينها بعلاقة معينة، تتبدل طبقا للزمان والمكان، وبحسب نوع العلاقة بين مكونات هذا الثالوث، تتكون شبكة العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين الأفراد والجماعات، ويتشكل محور الولاءات في المجتمع، ويتحدد منهج الفهم والتفكير الذي يسود فيه، ويترتب سلم القيم الذي يوجه أنماط السلوك بين أفراده.

فإذا كان الولاء في التنظيم أو الجماعة للأفكار، فهو تنظيم أو جماعة ناضجة ومتحضرة، وتكون في أعلى درجات صحتها وعافيتها، وفي هذه الحالة يتسلم مراكز القيادة والريادة الأذكياء وذوي الكفاءة، الذين يحسنون مجابهة التحديات واتخاذ القرارات، والذين يتسم منهج تفكيرهم بالعمق والدقة والعلمية والشمول، فيسخرون طاقاتهم ويفنون أعمارهم في العمل للقضايا الكبيرة والخطيرة التي تهم وطنهم وأمتهم، وتدور جل اهتماماتهم حول قضايا مجتمعهم، ومصلحة وطنهم.

وحين يكون الولاء في التنظيم أو الجماعة للأشخاص هو المحور، وتدور أفكار الناس في فلك الأشخاص، فإن السمة الغالبة لمثل هذا المجتمع تصبح هيمنة محبي الجاه والنفوذ، وسيطرة أصحاب القوة والسطوة، الذين يسخرون الأفكار والأشياء معا لمصالحهم الشخصية ورغباتهم الأنانية… وهنا ينحصر التفكير في مصلحة الذات أو الفئة لا غير، ويتصف بالضحالة والتفاهة والسطحية، وتدور الاهتمامات حول القضايا التي تثيرها المنافسات والخصومات والمهاترات الحزبية، وتسيطر هذه التفاهات على التفكير والتدبير إلى الحد الذي لا تترك فيه متسعا للقضايا الكبرى والتحديات المصيرية.

أما حين يكون الولاء للأشياء، وتدور الأفكار والأشخاص في فلكها، فهنا الطامة الكبرى والمصيبة العظمى ! حيث تصبح الهيمنة في التنظيم أو الجماعة لأرباب الأموال والتجارات والاستثمارات، وتسود ثقافة الترف والاستهلاك، وتداس القيم والاعتبارات، وتصبح الأفكار والمبادئ مجرد سلع ومواد للاستهلاك المحلي، وهنا يتعطل الفهم والتفكير ويصابان بداء الشلل، وينشغل الناس بأشيائهم وحاجاتهم ورواتبهم، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، وفي النهاية يلفظ التنظيم أو الجماعة أنفاسه الأخيرة، مصداقا لنبوءة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم الذي قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).

وإذا أردنا أن نستعرض التطبيقات العملية لهذا القانون فهي كثيرة، ففي عصر النبوة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعمق الولاء للفكرة، وهي العقيدة، ويجعله محور العلاقات الخاصة والعامة في المجتمع المسلم، وكانت أشخاص المسلمين وأشياؤهم تدور في فلك الولاء للفكرة الإسلامية، تطبيقا لقوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).

وبعد عصر النبوة، جسد الخلفاء الراشدون هذا الولاء للفكرة الإسلامية أروع تجسيد، ورصدوا أشخاصهم وأعمارهم وأشياءهم لنشرها في الخارج بالجهاد والتضحية والشهادة، وفي الداخل بالعدل والقدوة والشورى.

ثم كان المنعطف الخطير بعد عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، يوم بدأ رجال السياسة بتطويع رجال الفكر والشورى لأشخاصهم، بحجة الحرص على الفكرة والغيرة على الدولة.

ثم ازداد هذا النهج وتفاقم، يوم راح رجال السياسة يطاردون رجال الفكر ويضطهدونهم كلما استعصوا على الولاء للأشخاص، ثم تلا ذلك تطور آخر، حيث انتقل الولاء فيه للأشياء، واشتغل المجتمع الإسلامي بالدنيا، وتنافس الناس في جمع الثروات وتكديس الممتلكات، وصارت علاقاتهم ومنازلهم تتحدد طبقا لهذه التوافه.

وهكذا، وطبقا لهذا المنهج، فإننا نستطيع أن نميز بين ثلاثة مشاهد في التاريخ الإسلامي: ففي قرون الولاء للفكرة، تجمعت كلمة الأشخاص، وترسخت وحدتهم، وازدهر أمرهم، وبان عزهم، وعز نصرهم.

أما في قرون الولاء للأشخاص، فقد برزت الصراعات الأسرية من أجل الخلافة، وتشرذمت الأمة، وتوزعت ولاءاتها حول الأشخاص والعوائل والمذاهب، واشتغل المسلمون عن العدو الخارجي بالحروب والصراعات فيما بينهم.

وحين انتقل محور الولاء إلى الأشياء، انحدر المجتمع الإسلامي إلى الحضيض، وتمزقت شبكة العلاقات الاجتماعية حتى داخل الأسرة الواحدة، أو المذهب الواحد، وصارت الشعارات الفكرية بعض سلع التجارة ووسائل الترف !! الأمر الذي أدى إلى وفاة المجتمع الإسلامي آنذاك، ومجيئ الجماعات الصليبية والمغولية، لتعلن نبأ وفاة المشروع الإسلامي، وتقوم بمراسيم دفنه وإهالة التراب عليه !!

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق