سلايدر الرئيسيةمجتمع

مدونة الأسرة: بواعث المراجعة ومنهج الإصلاح

  د. محمد إبراهيمي  

كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بنمسيك- الدار البيضاء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم،

الشكر موصول للسيد العميد والسادة الأساتذة والطلبة الأعزاء، ولكل من أسهم في إنجاح هذه المحطة العلمية التي تقارب موضوعا وطنيا قبل أن يكون موضوعا علميا، لكونه يتعلق بورش مجتمعي محوره مؤسسة الأسرة، محطة من ضمن محطات أعطى انطلاقتها جلالة الملك في خطاب العرش يوليوز 2022.

وستحاول هذه المداخلة مقاربة الموضوع من خلال محورين؛ يتحدث أولهما عن البواعث التي تفرض مراجعة مدونة الأسرة، ويتطرق الآخر إلى المنهج المطلوب في مقاربة عملية الإصلاح.

أولا: في بواعث المراجعة:

1: موقع الأسرة في ضوء نصوص الشرع وأحكامه:

إن تتبع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية يؤكد المكانة البالغة التي تحتلها الأسرة ضمن نصوص الشريعية الإسلامية وأحكامها، فهي أصل للوجود ومنشأ البشر وتكاثرهم، فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون بداية الخلق أسرة وهو القادر على أن يخلقهم شعوبا وقبائل دفعة واحدة، لكن إرادته شاءت غير ذلك، قال تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء[1]، وربط الله تعالى تقواه بتقواها في تتمة الآية السابقة ﴿واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام[2]،  وفي ذلك إشارة بدلالة العبارة على أن الأسرة أول المؤسسات التي وجدت مع وجود الإنسان.

كما تتضح هذه المكانة من خلال تتبع موقع الأسرة في النسق التشريعي في نصوص القرآن الكريم، حيث التفصيل الكبير في أحكامها بشكل يتجاوز أغلب مؤسسات المجتمع، بما فيها مؤسسة الدولة التي لم تحظى سوى بآيات معدودة تنص على كليات تشريعية كالعدل والأمن والمساواة والشورى,, وهو ما  يؤكد أهميتها والحاجة للتدقيق والتفصيل في أحكامها ويزيل أسباب تفككها أو ضعفها نتيجة التنازع في الحقوق والواجبات.

فالأسرة آية من آيات الله عز وجل في المجتمع، ﴿ومن آيته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾. [3]

والله لا يذكر الآية إلى ويتبعها بدعوة للتفكر والنظر لأخذ الدروس والعبر، واستخلاص الأحكام والحكم، والقواعد والسنن، سواء في قضايا التصورات أو التصرفات، أو قضايا الوجود والأمم والحضارات والمجتمعات والمؤسسات..

والأسرة من ضمن مؤسسات المجتمع التي حفظها الله تعالى بمنظومة أحكام محكمة من الواجبات والحقوق والالتزامات، وذلك لمركزيتها في بنية المجتمع، ولوظائفها المتعددة التي تختص بها والتي تسهم بها إلى جانب مؤسسات أخرى في استقرار المجتمع وتماسكه ونهضته.

2: أهمية الأسرة في بناء المجتمعات واستقرارها:

إن تتبع تاريخ المجتمعات والدول يفيد قطعا أنه لم يوجد مجتمع بدون أسرة، فقد وجدت مراحل ومحطات تاريخية بدون مؤسسات كثيرة ــ كالدولة على سبيل المثال ــ  لكن نقطع باليقين أن تاريخ المجتمعات هو تاريخ أسر، فهي الضامن لتماسكها واستمرارها واستقرارها، وذلك لما تحققه من وظائف مشتركة مع غيرها كالتنشئة والتربية والتأهيل، وخاصة بها كمد المجتمعات بالنسل، وهو أحد أهم غاياتها كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس ابن مالك: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر الأنبياء يوم القيامة»[4]. ومعلوم ما للتكاثر من وظائف اجتماعية وحضارية واقتصادية لا يجادل فيها عاقل، ولا أدل على ذلك ما تعانيه العديد من الدول الغربية التي تعرف شيخوخة مجتمعية تهددها بالانقراض في المستقبل بسبب العزوف عن الزواج أو الولادة، فضلا عن ظاهرة المسخ الأخلاقي والثقافي التي طلت علينا من خلال التشريع للشذوذ وتقنينه في هذه المجتمعات.

كما تسهم الأسرة في نقل منظومة القيم المجتمعية للأجيال، وحفظ الذاكرة الحضارية والتاريخية، وتحصين هوية المجتمع ومرجعيته، قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه».[5] فقد استطاعت الأسرة في الأندلس وتركيا ودول الاتحاد السوفياتي سابقا.. أن تحفظ منظومة قيم أبنائها وتنقل لهم عقيدة الإسلام وثقافته ومثله رغم حالة الاجتثاث التي عرفتها هذه القيم من طرف الدولة في مؤسسات المجتمع وبنياته، لكن استطاعت الأسرة أن تحصن هذه القيم ، فلما اتسع هامش الحرية ظهرت للعلن معلنة عن نفسها، متمسكة بأصولها ومرجعياتها، لأن الأسرة احتضنتها وحمتها ونقلتها بكل أمانة للأجيال القادمة

و تساهم الأسرة كذلك في استقرار المجتمع وتماسكة في حال الأزمات والتوترات لما تقوم به من وظائف إلى جانب مؤسسات المجتمع، بل ولقدرتها على القيام بوظائف باقي مؤسسات المجتمع، وهو ما تؤكده مرحلة الحجر الصحي الذي عرفته البشرية مع جائحة كرونا، حيث استطاعت الأسر أن تقوم بوظائف تعليمية وتربوية واجتماعية وأمنية وصحية في وقت توقفت فيه الكثير من مؤسسات المجتمع، فتصدرت الأسر الواجهة إلى جانب مؤسسة الدولة لحماية استقرار المجتمع وسلامة بنياته ومؤسساته واستمرار وظائفه الحيوية.

3: تحديات ومخاطر تهدد بنية الأسرة واستقراراها:

وهي متعددة بتعدد طبيعتها وأسبابها ومجالاتها، ما يفرض التدخل للتقليل أو الحد منها لضمان سلامة مؤسسة الأسرة واستقرارها وأدائها لوظائفها الحيوية في المجتمع، ومن أهم هذه المشاكل:

  • المشاكل الاقتصادية والاجتماعية: يتضح من نتائج البحث الدائم حول الظرفية لدى الأسر المنجز من طرف المندوبية السامية للتخطيط، أن مؤشر ثقة الأسر تابع خلال الفصل الثاني من سنة 2022، منحاه التنازلي ليصل لأدنى مستوى له على الإطلاق.[6]  فقد انتقل حسب المذكرة مؤشر ثقة الأسر إلى 50,1نقطة عوض 53,7نقطة المسجلة خلال الفصل السابق و 63 نقطة المسجلة خلال الفصل الثاني من السنة الماضية. فخلال الفصل الثاني من سنة 2022، بلغ معدل الأسر التي صرحت بتدهور مستوى المعيشة خلال 12 شهرا السابقة %79,2، فيما عبرت 6,14 % منها عن استقراره و2,6% عن تحسنه، وبخصوص تطور مستوى المعيشة خلال 12 شهرا المقبلة، تتوقع  %46,8 من الأسر تدهوره و%40,7 استقراره في حين %12,5 ترجح تحسنه. كما توقعت %86 من الأسر مقابل %4,9 ارتفاعا في مستوى البطالة خلال 12 شهرا المقبلة، واعتبرت 78,9% أن الظروف غير ملائمة للقيام بشراء سلع مستديمة، في حين رأت %9,8 عكس ذلك.  كما صرحت  %52 من الأسر أن مداخيلها تغطي مصاريفها، فيما استنزفت  %45,4 من مدخراتها أو لجأت إلى الاقتراض. ولا يتجاوز معدل الأسر التي تمكنت من ادخار جزء من مداخيلها   %2,6، وبخصوص تطور الوضعية المالية للأسر خلال 12 شهرا الماضية، صرحت  %54,3من الأسر مقابل%5,6 بتدهورها. أما بخصوص تصور الأسر لتطور وضعيتها المالية خلال 12 شهرا المقبلة، فتتوقع%19,1  منها تحسنها و61,7 % استقرارها و %19,2  تدهورها.  كما صرحت %11,4  مقابل %88,6   من الأسر بقدرتها على الادخار خلال 12 شهرا المقبلة، وبخصوص ارتفاع الأسعار صرحت جل الأسر (%99,2) بأن أسعار المواد الغذائية قد عرفت ارتفاعا خلال 12 شهرا الأخيرة، في حين رأت  %0,1 فقط عكس ذلك،  أما بخصوص تطور أسعار المواد الغذائية خلال 12 شهرا المقبلة، فتتوقع %77,3 من الأسر استمرارها في الارتفاع و 19,7 % استقرارها و %3 فقط التي ترجح انخفاضها.

كما كشفت ملخصات الدراسات الميدانية الوطنية حول القيم[7] عن طبيعة التحديات التي تؤرق الأسرة المغربية وتحتاج لتظافر الجهود لإعداد حلول لها، والتي يمكن إجمالها في تحدي الفردانية المتصاعدة، وتزايد النزعة نحو قيم الاستهلاك، واتساع نطاق العنف، وضعف السياسات العمومية الموجهة للأسر، وتراجع دور المؤسسات المجتمعية من إعلام وجمعيات وإدارة في التواصل مع الأسرة وتقديم الحلول لمشكلاتها، ومشكل الإعلام الحديث وأثره في بنية العلاقات الأسرة، حتى أن المستجوبين عبروا بضرورة ” تقدير الدور الذي تقوم به الأسرة، وضرورة مساعدتها من طرف مؤسسات موازية مثل المدرسة والإعلام والجمعيات حتى تتمكن من أداء الأدوار المنوطة بها، خاصة ما يرتبط منها بتنشئة الأفراد على القيم الأساسية..”[8]

  • المشاكل التربوية: والتي تتجسد في حالة العجز الذي أضحى يتنامى لدى الأسر في مواكبة أبنائهم تربويا أمام التحدي الإعلامي الحديث الذي اكتسح منظومة القيم الصلبة لدى الشباب، وأصبح يوازي الأسر ويتجاوزها في تشكيل منظومة القيم، وهو تحد يفرض التفكير الجماعي في الطرق والآليات الكفيلة في الاستفادة من الثورة الرقمية بما لا يضعف من وظيفة الأسرة في التربية، وبما يسهم في حماية النشئ من الاختراق القيمي الذي يصاحب المنتج الإعلامي في تجلياته وأشكاله المختلفة. خاصة أمام الضعف البارز في منظومة التربية والتعليم التي تعتبر المؤسسة المساعدة للأسرة في التربية والتنشئة، ويؤكد هذه الحقيقة ملخصات التقرير الوثائقي والكمي والكيفي للدراسة الميدانية الوطنية حول القيم وتفعيلها المؤسسي السابقة والذي دعت فيه الأسر المستهدفة بالدراسة “ضرورة استحضار رقابة الدولة والمؤسسات فيما يخص الانتشار المتزايد للألعاب الإلكترونية، والتي على الدولة تقنين استعمالها ووضع حد للعشوائية في انتشارها واستعمالها من طرف الأطفال والمراهقين الذين يتطبع سلوكهم بالعنف من جراء ذلك، ومن جهة ثانية فإن الكثير من السلوكيات التي تحيد عن القيم داخل الأسرة مردها في نظر بعض المستجوبين إلى الاختراق القيمي الذي تحدثه المسلسلات المدبلجة والمواد الإعلامية، خاصة المرئية منها، علاوة على الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، والكثير من التطبيقات التي تغير سلوك الأطفال وقيمهم في غياب مراقبة دائمة من طرف الآباء”.[9]
  • التحديات التشريعية : وتتعلق بمنظومة القوانين الناظمة والضابطة للعلاقات والحقوق والواجبات المتعلقة بأطراف الأسرة منذ نشأتها إلى تفككها، حيث لم تستطع المنظومة التشريعية رغم كل الجهود من الحد من ارتفاع حالات الطلاق التي تنامت سنة 2021، بتسجيل أكبر عدد فيها منذ دخول مدونة الأسرة حيز التنفيذ سنة 2004. وهو ما كشفته وزارة العدل حيث أكدت ارتفاع حالات الطلاق من 26914 حالة سنة 2004 إلى 20372 حالة سنة 2020، ليعاود الارتفاع سنة 2021، إذ بلغ ما مجموعه 26957 حالة طلاق. مع عدم تفعيل مسطرة الصلح، التي تحتاج إلى إعادة النظر في شروطها وآلية اشتغالها، فضلا عن غياب قانون مؤطر للوساطة الأسرية باعتبارها آلية تسهم في بناء أسرة مستقرة وتتبع مراحل نشأتها، وحمايتها في حالة التفكك من الآثار الجانبية التي قد تسهم في انحراف الأبناء وضياع حقوق الأطراف الضعيفة فيها.

4: الترافع لصالح الثوابت الوطنية والمرجعية على حساب المواثيق الدولية:

وأقف في هذا الصدد عند آخر وثيقة دولية تتعلق بالملاحظات والتوصيات الختامية للجنة وضع المرأة التابعة لهيئة الأمم الصادر في يوليوز 2022 الموجهة للمغرب في إطار تنفيذ اتفاقية “سيداو” لرفع كل أشكال التمييز ضد المرأة.

توصيات تضمنت أزيد من خمسين نقطة أهمها الفقرة 24 و 40 والتي حددت اللجنة ضرورة أن يقدم المغرب تقريرا عنها في أجل سنتين.

فالفقرة 24 من التقرير تتعلق بالقانون الجنائي، وتنص على إلغاء المادة 489 من القانون الجنائي والخاصة بإلغاء تجريم الشذوذ، والمادة 490 المتعلقة بإلغاء تجريم العلاقات الجنسية خارج مؤسسات الزواج.

حيث جاء في المادة[10]، “إن اللجنة إذ تشير إلى التوصية العامة رقم 35 (2017) بشأن العنف الجنساني ضد المرأة، الصادرة تحديثاً 19، وتمشيا مع الغاية 5-2 من أهداف التنمية المستدامة الرامية إلى القضاء على جميع أشكال العنف ضد جميع النساء والفتيات في المجالين العام والخاص تحث الدولة الطرف على ما يلي:

  • أ: اتخاذ التدابير اللازمة لإلغاء المادة 490 من قانون العقوبات، ولا سيما من أجل كفالة عدم تعرض النساء ضحايا العنف الجنساني لخطر توجيه الاتهام إليهن بموجب هذه المادة.
  • ب: اتخاذ الخطوات اللازمة لإلغاء المادة 489 من قانون العقوبات”

والفقرة 40 التي تخص مدونة الأسرة، وفيها نص على إلغاء المادة الخاصة بالحد الأدنى للزواج، وإلغاء تعدد الزوجات، وتعديل جميع الأحكام التمييزية بما فيها أحكام الطلاق والحضانة والميراث دون إبطاء بالتشاور مع المجتمع المدني وخصوصا المنظمات النسائية.

حيث جاء في نص المادة[11]: “في ضوء توصية اللجنة العامة رقم 21 (1994) بشأن المساواة في الزواج والعلاقات الأسرية وبالإشارة إلى ملاحظاتها الختامية السابقة  (4 CEDAW/C/ MAR/ CO/ ، الفقرة 39)، توصي الدولة الطرف بما يلي:

  • أ: إلغاء المادة 20 من قانون الأسرة دون إبطاء بحيث لا يسمح بعد الآن بالاستثناءات من الحد الأدنى لسن الزواج؛
  • ب: إلغاء تعدد الزوجات وكفالة تطبيق مبدأ الموافقة الحرة والمستنيرة أيضا على إنهاء عقود الزواج؛
  • ج: الاعتراف بحق الأمهات غير المتزوجات في تأكيد حقوقهن وحقوق أطفالهن دون خوف من أي شكل من أشكال الملاحقة القضائية والوصم؛
  • د: سن أحكام قانونية تكفل للمرأة، عند فسخ الزواج، حقوقا متساوية في الممتلكات المكتسبة أثناء الزواج، تمشيا مع المادة 16(1) من الاتفاقية؛
  • ه: تعديل جميع الأحكام التمييزية المتبقية، بما في ذلك الأحكام المتعلقة بالطالق وحضانة الأطفال والميراث، دون إبطاء، وبالتشاور مع المجتمع المدني، ولا سيما المنظمات النسائية.”

وهي توصيات تتعارض مع المنطلقات والثوابت المرجعية، وتفرض علينا الانحياز للخصوصية على حساب التوصيات الخارجية التي لا تراعي هذه الثوابت، خاصة وأن الوثيقة الدستورية تنص في تصديرها على “أن الهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء”. كما أن هذه الإملاءات تتعارض مع المقاصد الكبرى للتشريع في قضايا الأسرة والحكم المتعلقة بوظائفها.

كما تتعارض مع خصوصيات المجتمعات الثقافية وسيادتها التشريعية، حيث تحتفظ العديد من الدول بالحق في الاعتراض على الكثير من القوانين المقررة في المواثيق الدولية، بما فيها أحكام وقضايا الأسرة، كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية[12]

فالأصل في المقررات الأممية أن تراعي خصوصيات الشعوب وثقافاتهم ومرجعياتهم الدينية، خاصة وأن جزءا من مقتضياتها هو منتج لهذه الثقافات والمرجعيات الوضعية والسماوية، ما يفرض استصحاب هذه الاعتبارات في التوصيات والالزامات الصادرة عنها تجاه الدول الأعضاء.

إن الدواعي المنصوص عليها أعلاه تحتم إعادة النظر في النص القانوني للمدونة، بل وفي السياسات العمومية الموجهة لمؤسسة الأسرة، إذ المشاكل والتحديات التي تواجه الأسرة، والموقع الذي تتبوأه في المجتمع يقضي برفع درجة الاهتمام والرعاية بهذه المؤسسة، وذلك من منطلقات المرجعية الوطنية التي يتبوأ فيها الدين الإسلامي موقع الصدارة، وباستحضار بعض التوصيات الأممية التي لا تتعارض مع هذه المقتضيات.

ثانيا: في منهج الإصلاح:

وأنطلق فيه من المحددات المنهجية التي وضعها الخطاب الملكي السامي لعيد العرش في يوليوز 2022، والذي جاء في مضمونه: “والواقع أن مدونة الأسرة، ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها. فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال. لذا، نشدد على ضرورة التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضياتها القانونية. كما يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك.

وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.

ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”.

فمن أهم محددات المنهج التي تضمنه الخطاب:

1: المقاربة المؤسساتية:

أي التوجه رأسا للمشاكل التي تتعلق بمؤسسة الأسرة وليس بأفرادها، والمقصود بذلك تغليب المقاربة المؤسساتية الجماعية التي تعلي من قيم التراحم والتكامل على المقاربة الفردانية التي تذكي قيم النزاع والصراع، فالمدونة كما قال جلالة الملك: “ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها. فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال”.

2: المقاربة المرجعية:

وهي مقاربة تحتكم للشرع وثوابته وتراعي المتغيرات وتحولات الواقع ومستجداته، وهو ما أكد عليه جلالة الملك في قوله: “وبصفتي أمير المؤمنين ، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.

ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح”.

ونص عليها دستور المملكة المغربية في عدد من الفصول، ومنها:

  • تصديره: “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كلمكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء.” فالاتفاقيات الدولية التي يصادق عليها المغرب تسمو على التشريعات الوطنية وتلاءم وفق مقتضياتها في إطار، “ونطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة.
  • وفي الفصل الأول: “تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي”. والفصل الثالث بعبارة واضحة الدلالة، وهي: “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية.”
  • وفي الفصل الثالث: “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”.
  • كما جاء في الفصل السابع في شأن الأحزاب السياسية: “ولا يجوز أن يكون هدفها المساس بالدين الإسلامي، أو بالنظام الملكي، أو المبادئ الدستورية، أو الأسس الديمقراطية، أو الوحدة الوطنية أو الترابية للمملكة.”
  • وفي الفصل التاسع عشر: “يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”.

وقد فتحت المدونة الحالية هذا الباب في آخر مادة من موادها، وهي المادة 400 التي نصت على أن “ما لم يرد به نص في هذه المدونة يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف”.

3: المقاربة التشاركية:

ومعناه إشراك وانخراط كافة الفاعلين الذين لهم إسهام حقيقي في المدونة من العلماء والخبراء والفاعليين المدنيين، كل في مجال خبرته واختصاصه بما يسهم في بناء رؤية متكاملة تفرز قانونا يراعي الأبعاد المختلفة لمؤسسة الأسرة، وبما يحقق استقرارها وأداء وظائفها المنوطة بها، وهو ما نص عليه الخطاب الملكي بقوله: “ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”.

4: المقاربة الإصلاحية الشاملة:

وهي مقاربة تَتَّبِعُ المشاكل الحقيقية لمؤسسة الأسرة، وليس المتوهمة والتي فُرضت فرضا تبعا لأجندات خارجية لا علاقة لها بإكراهات الأسر المغربية؛ كالتعدد، والزواج المبكر، والمساواة في الإرث..

فالأسر تعاني كما سبق من العديد من المشاكل التربوية والاجتماعية والاقتصادية فضلا عن بعض المشاكل القانونية، لذلك فأي مقاربة إصلاحية ناجعة ينبغي أن تراعي الشمول في المقاربة والتوجه قصدا للمشاكل الحقيقية التي تعاني منها الأسرة المغربية.

إن أي مقاربة إصلاحية لمدونة الأسرة ينبغي أن تستحضر البواعث الحقيقية للإصلاح، وتراعي موقع الأسرة في بنية المجتمع المغربية، ومنظومة القيم المرجعية والتشريعية، فضلا عن المقاربة التشاركية والشاملة التي تمكن من مراجعة تضمن تماسك الأسرة وإسهامها في استقرار المجتمع ومده بالموارد البشرية الصالحة المصلحة التي تسهم في نهضة الوطن وتقدمه.

 

لائحة المصادر والمراجع

1: القرآن الكريم برواية ورش.

2: المملكة المغربية، الأمانة العامة للحكومة، دستور المملكة المغربية، 2011، مديرية المطبعة الرسمية، المغرب.

3: خطاب جلالة الملك بعيد العرش يوليوز 2022.

4: المملكة المغربية ، وزارة العدل، مدونة الأسرة المغربية (صيغة محينة) ، يوليوز 2021. مديرية التشريع، المغرب.

5: المملكة المغربية، مجلس النواب المغربي، ملخصات التقرير الوثائقي والكمي والكيفي للدراسة الميدانية الوطنية حول القيم وتفعيلها المؤسسي: تغيرات وانتظارات لدى المغاربة، منشورات ، دجنبر 2022. المركز البرلماني للدراسات والأبحاث، المغرب.

6: المملكة المغربية، المندوبية السامية للتخطيط، مذكرة إخبارية حول نتائج بحث الظرفية لدى الأسر الفصل الثاني من سنة 2022. المغرب.

7: المملكة المغربية، اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، النموذج التنموي الجديد ، التقرير العام، أبريل 2021. المغرب.

8 المملكة المغربية، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مذكرة المجلس حول النموذج التنموي، غشت 2020. المغرب.

9 : المملكة المغربية، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، رأي المجلس الوطني بخصوص مشروع قانون 103.13، يتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، أبريل 2016. المغرب. 2022/2023.

10 : محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي ، صحيح ابن حبان،  الطبعة الثانية ، 1414 – 1993. الناشر : مؤسسة الرسالة – بيروت.

 

المراجعة القرآنية لأحكام اللعان في التوراة

[1] : سورة النساء، الآية: 1.

[2] : سورة النساء، الآية: 1.

[3] : سورة الروم، الآية: 21.

[4] : محمد بن حبان ، صحيح ابن حبان، ج:9/ ص: 338.

[5] : المصدر نفسه، باب الفطرة، ج:1/ ص: 336.

[6] : المندوبية السامية للتخطيط، مذكرة إخبارية حول نتائج بحث الظرفية لدى الأسر الفصل الثاني من سنة 2022

[7] : منشورات مجلس النواب، ملخصات التقرير الوثائقي والكمي والكيفي للدراسة الميدانية الوطنية حول القيم وتفعيلها المؤسسي: تغيرات وانتظارات لدى المغاربة، ، دجنبر 2022، من الصفحة 63 إلى ص 65.

[8] : المرجع نفسه، ص:59.

[9] : الدراسة الميدانية الوطني حول القيم وتفعيلها المؤسسي: تغيرات وانتظارات لدى المغاربة، مرجع سابق، ص: 63.

[10] : الأمم المتحدة، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، الملاحظات الختامية بشأن التقرير الجامع للتقريرين الدوريين الخامس والسادس للمغرب، يوليوز 2022، ص: 08.

[11] : المرجع نفسه، ص: 14.

[12] : نموذج تحديد سن الزواج، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ المصالح القضائية بالبث في الحالات التي يكون فيها أحد طرفي الزواج قاصرا، وهو المعمول به عندنا في المغرب، والذي ترغب التوصيات بإلغائه والحد منه.

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق