الضفة الأخرىسلايدر الرئيسية
المفوضية الإسلامية بإسبانيا بين شبهة الإرهاب وتجاوز الخطوط الحمراء
باحث في جامعة كوبلوتينسي بمدريد
مختص في قضايا التطرف والجماعات الجهادية
فلم يكن أحد من المراقبين والمهتمين والعاملين في الحقل الديني يتوقع أن يتم اعتقال رئيس أعلى هيئة تمثيلية للمسلمين في إسبانيا – وهي مؤسسة من مؤسسات الدولة رغم طابعها المدني – بتهمة ثقيلة كهذه، لعدة اعتبارات أولها كون تعيينه على رأس المفوضية الإسلامية لم يكن ليتم إلا بمباركة ورضى أجهزة الاستخبارات ووزارة العدل الإسبانية التي تعرف عنه كل صغيرة وكبيرة منذ أن كان طالبا في كلية الطب بمدينة غرناطة الأندلسية في سبعينيات القرن الماضي.
ومنذ تسريب خبر اعتقال أيمن إدلبي والذي لم يدم سوى بضع ساعات – بعد تفتيش مكتبة ومنزله والتحقيق معه – تحدثت وسائل الإعلام الإسبانية وخاصة منها المعروفة بقربها من أجهزة الاستخبارات والأحزاب اليمينية بإسهاب عن “الاشتباه في تورطه في عمليات تمويل جماعات جهادية في سوريا” وأكدت أن هذا الاعتقال مرتبط بعملية Wamor والتي نفذتها أجهزة الأمن الإسبانية قبل عامين من الآن.
** لماذا إقحام اسم أيمن إدلبي في عملية Wamor ؟
وحسب تسريبات الشرطة الإسبانية، فإن اعتقال الدكتور أيمن إدلبي له صلة بالتحقيقات التي مكنت أجهزة الأمن الإسبانية من تفكيك خلية مفترضة كانت تديرها عائلة قطيني، وهي عائلة من أصل سوري يتابع عشرة من أفرادها أمام القضاء بتهمة “غسيل الأموال عبر شركات في مدريد وضواحيها وبعض مدن الساحل الشرقي في إسبانيا، مثل كاستيون وفالينسيا وتحويل هذه الأموال إلى جماعات جهادية في سوريا”.
وأكدت التحقيقات التي باشرتها أجهزة الأمن الإسبانية وأسفرت في شهر يونيو من سنة 2019 عن تفكيك الخلية المفترضة، أن فارس قطيني، وهو كبير العائلة في إسبانيا، كان يشرف على تسع شركات للبناء والنقل والخدمات الصحّية والعناية بالمسنّين، ويستخدمها لإرسال الأموال إلى سوريا عن طريق نظام “الحوالة”، الذي يستخدمه تنظيم “القاعدة” لتمويل أنشطته وعملياته، وذلك عبر شبكة مترامية تمرّ بتركيا والأردن ولبنان وسوريا.
وبحسب وزارة الداخلية الإسبانية فإن عائلة قطيني كانت تملك مستودعاً كبيراً بالقرب من مدينة طليطلة، جنوبي العاصمة مدريد، تجمع فيه سيّارات رباعيّة الدفع من طارز “تويوتا لاند كروزر”، بعضها مصفّح، وترسلها إلى سوريا عن طريق ميناء برشلونة. وتفيد التحقيقات الأمنية بأن فارس قطيني كان يشرف على هذه الأنشطة من ملحمة كان يديرها بالقرب من مسجد “أبو بكر الصديق” بمدريد، حيث يتواجد مقر اتحاد الجمعيات الإسلامية بإسبانيا وكذا مقر المفوضية الإسلامية.
وخلال التحقيقات التي باشرتها الشرطة الإسبانية في إطار هذه العملية التي أطلق عليها تسمية Wamor أثير اسم الرئيس الأسبق للمفوضية الإسلامية، الراحل رياج ططري بكري، بسبب العلاقة العائلية التي كانت تجمعه بفارس قطيني حيث أنهما كانا متزوجين من أختين.
ولم يرد قط إسم الدكتور أيمن إدلبي خلال التحقيقات التي سبقت عملية تفكيك الخلية المفترضة ولا خلال التحقيقات القضائية مع أفراد عائلة قطيني العشر الذين تم اعتقالهم وهم الآن يتابعون أمام القضاء في حالة سراح. فلماذا يتم إقحام إسم إدلبي في هذه القضية فجأة ؟
الثلاثي قطيني-ططري-إدلبي واستهداف المفوضية الإسلامية
في سنة 2015، أي أربع سنوات قبل الإعلان عن تفكيك خلية تمويل القاعدة المفترضة بزعامة فارس قطيني، كان اتحاد الجمعيات الإسلامية قد قدم مساعدات مالية لمجلس ريف دمشق الإغاثي في الشمال السوري لكفالة ثمانين طفلا {80} من الأيتام السوريين ضحايا الاقتتال الدائر في سوريا.
مساعدات اتحاد الجمعيات الإسلامية بإسبانيا {أوسيدي}، والذي كان يرأسه حينها الراحل رياج ططري وليس الدكتور أيمن إدلبي، تم الإعلان عنها في إطار الأنشطة السنوية للاتحاد وقدمت بشأنها إيصالات ووثائق إثبات لوزارة العدل الإسبانية وتمت الموافقة عليها بدون أية مشاكل أو شبهات.
وحسب مصادر من داخل اتحاد الجمعيات الإسلامية بإسبانيا فإن هذا الأخير قدم مساعدات إنسانية لمجلس ريف دمشق الإغاثي والذي كان يتعاون مع منظمة البشائر الإنسانية { https://albashyer.org/} وهي منطمة معترف بها دوليا، ولم يكن له أي دخل في تسيير المؤسسات التي يشرف عليها المجلس والتي قالت عنها وسائل الإعلام الإسبانية – استنادا إلى تسريبات الاستخباراتية – أنها “مدارس لتربية الأطفال الجهاديين”.
وخلال التحقيق مع فارس قطيني سنة 2019، تمت مساءلته كذلك عن مساعدات إغاثية كان قد أرسلها إلى مؤسسة بشائر الإنسانية والتي تتوصل بمساعادات من مئات سوري الشتات خاصة من المسلمين السنة والمعارضين لنظام بشار الأسد.
ومنذ تسريب خبر اعتقال الدكتور أيمن أدلبي قامت كل وسائل الإعلام وبدون استثناء بتركيز مدفعيتها صوب المفوضية الإسلامية ورئيسها الدكتور أيمن إدلبي، في حين أن المعني بالأمر هو اتحاد الجمعيات الإسلامية – الذي يوجد أمين ماله السوري الأصل أبو معاذ رهن الاعتقال – وليس المفوضية. فهل كان الخلط مقصودا أم أن الأمر يتعلق بجهل من قبل وسائل الإعلام وضعف شديد في التواصل من قبل المفوضية الإسلامية أم هي خلطة من ثلاث مكونات؟
إذا كان الرابط بين الراحل رياج ططري وفارس قطيني هو علاقة المصاهرة التي كانت تجمعهما فما موقع الدكتور أيمن أدلبي في هذا الثلاثي؟
حسب معلومات شبه مؤكدة فإن المركز الثقافي الإسلامي “أبو بكر الصديق” بمدريد والمعروف اختصارا بمسجد ّإستريتشو”، حيث يوجد مقر اتحاد الجمعيات الإسلامية بإسبانيا والمفوضية الإسلامية، هو ملكية خاصة مسجلة في إسم الراحل رياج ططري وصهره فارس قطيني والدكتور أيمن إدلبي. وكما يقول المثل العربي… إذا عرف السبب بطل العجب.
** العربية السعودية والمملكة المغربية خطان أحمران
كان الرئيس الأسبق للمفوضية الإسلامية، الراحل رياج ططري، يحظى بمكانة خاصة لدى الحكومات الإسبانية المتعاقبة على اختلاف توجهاتها، منذ وفاة الدكتاتور فرانسيسكو فرانكو، حيث كانت تعتبره “رجل دولة” وشخصية معتدلة حافظت على “استقلالية” المفوضية الإسلامية.
وسعى الرئيس الأسبق إلى التأسيس ل”إسلام إسباني” مستقل عن الدول العربية والإسلامية وهو الموقف الذي جلب له تأييد الدولة العميقة في إسبانيا من جهة ولكن وفي المقابل، خلق له عداوات كثيرة مع عدة أنظمة عربية مثل السعودية والمغرب، البلد الأصل لأزيد من ثلثي المليوني ونصف المليون مسلم الذين يعيشون في إسبانيا.
رحيل رياج ططري، والذي وافته المنية في شهر أبريل من سنة 2020 على إثر إصابته بفيروس كورونا، كان قد أثار مخاوف أجهزة الاستخبارات الإسبانية والتي تخشى من انتقال قيادة المفوضية الإسلامية إلى شخصيات مقربة من جهات خارجية، وبخاصة من المغرب أو المملكة العربية السعودية أومن جماعات إسلامية مثل جماعة العدل والإحسان المعارضة للنظام المغربي.
وللحفاظ على استقلالية المفوضية الإسلامية وقع اختيار وزارة العدل الإسبانية وأجهزة الاستخبارات على الدكتور أيمن إدلبي، الملقب ب”أبو عبده”، ودفعت في اتجاه ترأسه للمفوضية الإسلامية كشخصية تحظى بالاحترام وبنوع من الإجماع داخل اللجنة الدائمة للمفوضية في هذه الظرفية العصيبة، وبخاصة في ظل الصراعات التي تشهدها الساحة الإسلامية في إسبانيا بين عدة تيارات والسعي الحثيث لبعض الأطراف التي لها ارتباطات خارجية للسيطرة على هذه المؤسسة الحساسة التي تمثل مسلمي إسبانيا.
فكيف تحول الدكتور أيمن إدلبي في ظرف أربعة أشهر من رجل يحظى بثقة الدولة العميقة في إسبانيا إلى مشتبه فيه بتمويل جماعات جهادية؟
وسائل الإعلام الإسبانية تحدثت بإسهاب غير مسبوق عن اعتقال الدكتور أيمن إدلبي بالرغم من أنه لم توجه له أية تهمة بشكل رسمي، لكنها لم تذكر أن الاعتقال تم يومين فقط بعد عودته من المملكة العربية السعودية، حيث قام بزيارة للمملكة بدعوة من رابطة العالم الإسلامي.
وخلال هذه الزيارة التي دامت بضعة أيام، وقع الدكتور أيمن إدلبي مذكرة تفاهم بين المفوضية والرابطة تضمنت إعداد خطة عمل ذات برنامج زمني محدد لتفعيل مضامين “وثيقة مكة المكرمة” لنشر الإسلام الوسطي والمعتدل داخل إسبانيا ودول أمريكا اللاثينية، عبر ترجمتها ونشرها ومناقشتها في مختلف المناسبات الثقافية، والسعي لإدماجها في المناهج التعليمية بالإضافة إلى برنامج دراسات عُليا معتمد من وزارة التعليم الإسبانية حول مضامين وثيقة مكة المكرمة والدور المرجو منها في التأليف بين البشر.
كما قام الدكتور إدلبي بزيارة إلى مركز الحرب الفكرية على التطرف والإرهاب هو مركز عالمي تابع لوزارة الدفاع السعودية، ويختص بمواجهة جذور التطرف والإرهاب، وترسيخ مفاهيم الدين الوسطي والمعتدل، ويرأس مجلس أمنائه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وبالرغم من أن وفد المفوضية الإسلامية بإسبانيا انتقل إلى المملكة العربية السعودية بعد حصوله على إذن مسبق من وزارة العدل – حيث حضر ممثل عن السفارة الإسبانية بالرياض جانبا من أنشطة الوفد بالمملكة – إلا أن اعتقال الدكتور إدلبي مباشرة بعد عودته من السعودية يطرح علامات استفهام كثيرة حول مدى تقبل الدولة العميقة في إسبانيا لأي تقارب بين المفوضية الإسلامية ودول مثل السعودية والمغرب، اللذين يعتبران بالنسبة لها خطا أحمرا يجب عدم تجاوزه.
وكما قال الدكتور أيمن إدلبي في بيان له، تبقى الكلمة الفصل للقضاء الإسباني الذي عبر عن ثقته التامة فيه لإنصافه.