آخر
السعدي يكتب.. حزب المحروقات
تابع المغاربة باستهجان كبير أطوار المنصة التفاعلية التي نظمها حزب “أخنوش” في إطار برنامج “100 يوم.. 100 مدينة” للحديث عن واقع مدينة مكناس، شارك فيها جهابذة الأحرار ومُراهِقُوها من وزراء سابقين وبرلمانيين كرشيد الطالبي العلمي ومحمد بوسعيد وسعيد شباعتو وبدر الطاهري بهدف شن هجوم على عبد الله بووانو رئيس جماعة مكناس، والتعبير عن حسرتهم لما آلت إليه المدينة في عهد تدبيره لشأنها المحلي، واتهامه بإعطاء وعود انتخابية كاذبة.
وقبل الخوض في حيثياث هذه الهجمة المسعورة، وكيف رقت قلوب قياديي “الحمامة” ولانت مشاعرهم حتى هبوا للدفاع عن مكناس، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الحملة المدفوعة ليس الغاية منها مصلحة المدينة، ولا سواد عيون أهلها كما قد يعتقد البعض، ولكن لابتزاز رئيس جماعتها عبد الله بووانو، وثنيه من أجل التراجع عن مطالبة الحكومة بإخراج تقرير مجلس المنافسة المتعلق بسوق المحروقات، وهو التقرير الذي سيفضح طمع وجشع الجاثمين على رقاب المغاربة. الأكثر من ذلك أنهم منحوا لأنفسهم الحق في تقديم رؤى عميقة للمشكلات، وحلولًا عبقرية، بينما وهم في موقع المسؤولية كانوا أشد بلادة وعجزًا، ومتورطين في فضائح بالجملة، تجدهم يكثرون من الطرح السياسي الذي يتميز بالشَطَحِ والقفز إلى الأمام لغايات ركوب أي موجة شعبوية دون امتلاك أي حل سياسي واقعي، واضح وموضوعي، وهو ما يفسر إفلاسهم وعدم قدرتهم على مقارعة الحجة بالحجة، واعتمادهم في نفس الوقت على أساليب غير نزيهة، جعلتهم يميلون إلى اتهام خصومهم باتهامات مغرضة لغايات كسب التأيد الشعبي، وتفادي الخوض في نقاش سياسي عميق حول الظروف الموضوعية البائسة التي يواجهها المواطنون، والفرص الضئيلة المتاحة للخروج من عنق الزجاجة الخطير الذي ينذر بكثير من الإحباط واليأس. فالقضية باختصار ليست مدينة مكناس أو تدبير شؤون مكناس، ولكن 17 مليار درهم حق المغاربة الذي نهبته شركات المحروقات، وجاء حزب الأحرار للدفاع عنها، بعد أن حوَّل توجهه إلى حزب يخوض معارك، ظاهرها الحرص على الوطن، وباطنها نهب الوطن.
وبالعودة إلى موضوع المنصة التفاعلية التي تطرقت لموضوع تدبير شؤون مدينة مكناس للمرة الثانية بعد فشل الأولى التي نظمت بجماعة ويسلان وعرت على واقع حزبي بئيس، قدم “علماء” الأحرار وجهابذته أنفسهم في ثياب الناصحين، بل إن بعضهم أصبح يقدم نظريات في السياسة، ودروسا في تدبير الشأن المحلي، ويطالب بالتطهير والمكاشفة، بينما أول مكاشفة هي أن يحاكموا على ما اقترفت أيديهم من خروقات وتجاوزات، والنموذج من مدينة تطوان أيام كان رشيد الطالبي العلمي رئيسا لجماعتها حيث لا زال التطوانون يتذكرون بمرارة حجم العبث الذي عاشوه خصوصا فيما يتعلق بعملية توزيع دكاكين سوق الإمام مالك “الشطر الثاني” الذي بني على مساحة 17 ألف و239 متر مربع بكلفة تجاوزت 20 مليون درهما وعددها 431 دكانا، كان مزمعا توزعها على الباعة المتجولين، غير أن الرئيس الطالبي العلمي استحوذ على النصف لصالحه وتوزع على أعضاء من حزبه وموالين له من مستشارين وموظفين وغيرهم، ويأتي في الأخير ليبخس حصلية تدبير “البيجيدي” لشؤون مكناس ويلبس قناع المكر والخداع ويوهم أهلها بمصداقية قوله وحسن نيته، ويزعم أن تحديث المدينة لا يقتصر على أشغال التزفيت وترصيف الطرقات والتهيئة المجالية، بل على التنمية، يكون فيها المكناسيون محورها الأساسي، وهو الذي لم يستطع طيلة رئاسته لجماعة تطوان تزفيت ولو شارع واحد، ولم يكلف نفسه حتى عناء تأهيل المدينة حضاريا، فكيف يرجو الخير للغير وهو لا خير فيه لأهله؟ هذا دون أن ننسي متابعته من طرف الخازن العام للمملكة في قضية التهرب الضريبي بحوالي مليار و200 مليون سنتيم قيمة مراجعة فواتير استهلاك الكهرباء تخص شركته “نورفي كوير”، حيث بات الحجز على ممتلكاته مسألة وقت ليس إلا. وأيضا بخصوص ملفات أخرى حينما كان رئيسا لمجلس النواب، تتعلق بشبهة تبذير ملايين الدراهم في دراسات شكلية من طرف مكتب دراسات معين استفرد بكل الصفقات، وظلت تلك الدراسات في الرفوف حين غادر المجلس، بل منها ما رمي في القمامة وقام موظفو المجلس ولجنة من برلمانيين بذلك العمل من جديد وبشكل مجاني، كما هو الشأن بالنسبة لتعديل النظام الداخلي لمجلس النواب.
فالرجل لم يفشل في تدبير الشأن المحلي عندما كان رئيسا لجماعة تطوان أو حتى عندما كان رئيسا للبرلمان فقط، بل فشل حتى عندما كان وزيرا للشباب والرياضة حيث تميزت فترة استوزراه بانفجار العديد من الفضائح المدوية جرت عليه غضبة ملكية تسببت في إلقائه خارج أسوار الحكومة، بعدما فشل في تدبير بعض المشاريع الكبرى، وإخفاقه المريب في إنجاح عدد من الملفات والقضايا ذات الأولوية ارتبطت بإختلالات وخروقات مالية وإدارية وقانونية خطيرة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان الرجل بطل العديد من التلاعبات التي طالت حملة ترشح المغرب لتنظيم مونديال 2026، عندما دخل في صراعات خفية مع مولاي حفيظ العلمي رئيس لجنة ترشيح المغرب لملف تنظيم نهائيات كأس العالم 2026 وقتها، بالإضافة إلى فشله الذريع في إنجاح المشروع الملكي “ملاعب القرب” الذي ينجز في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كانت الوزارة قد أطلقت صفقته منذ 2002 بقيمة 600 مليون درهم من أجل تجهيز 1679 من ملاعب بمختلف ربوع المملكة قبل أن يتحول إلى وسيلة للاسترزاق المالي والانتخابي، وعجزه في وضع برنامج وطني لتأطير الشباب وتعبئتهم للانخراط في الأنشطة الرياضية والإجتماعية والسياسية، وإخفاقه كذلك في إنجاح الدبلوماسية الرياضية، ودخوله في حروب ذات أهداف شخصية وسياسية مع العديد من رؤساء الجامعات الملكية للعديد من الرياضات، بعد أن قطع عليهم صنبور الدعم المالي، وهو الأمر الذي انعكس سلبا على نتائج العديد من المنتخبات الوطنية وحال دون تتويجها في المحافل الرياضية الدولية. فهل لفشل الرجل في مهامه الرسمية له علاقة بلعنة “الشوافات”؟
وعلى خطى زميله بالمكتب السياسي تحدث محمد بوسعيد، في مداخلته على “أن مكناس تمثل هوية المغاربة، لذلك يجب أن يكون لها مستقبل مشرق، وبأن حزبه سيدافع عن مستقبل هذه المدينة خلال استحقاقات 2021 المقبلة للنهوض بها اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، ورياضيا”. ويبدو أن بوسعيد لا زال تحت تأثير الفضائح التي سجلت في عهد تسيره لوزارة الوظيفة العمومية لعل أبرزها فشله في عملية المغادرة الطوعية من الإدارات العمومية سنة 2004، والتي رغم رصد الملايير لتحقيق هذه العملية، ورغم وعوده بتقليصها لحجم كتلة الأجور، من 60 مليار درهم سنويا إلى 37 مليارا كما كان في عهد حكومة اليوسفي، إلا أن نتائجها كانت كارثية على الميزانية العامة للبلاد، بحيث ارتفعت كتلة الأجور إلى الضعف، وقاربت خلال سنة 2016 حوالي 120 مليار درهم، والنتيجة أن المغرب لا يزال يدفع الثمن إلى اليوم. هذا دون الحديث عن استفادته من بقعة أرضية مساحتها 3000 متر مربع بأراضي الدولة بمبلغ زهيد لا يتجاوز 370 درهما للمتر الواحد. فلأن الخطابات الرنانة والحديث عن المبادئ والقيم شيء، وواقع الحال شيء أخر، فلن تجد فاسدا يبرر الفساد، ولا لصا يجادل في كون السرقة أمرا مستهجنا، ولا انتهازيا يمدح الانتهازية، بل إن الفاسدين والوصوليين والانتهازيين هم الأكثر قدرة على الانتقاد والدعوة إلى التصحيح، حتى وإن كان المنْتَقد نزيها وشريفا. ولعل حماس بوسعيد الزائد وغلوه في الدفاع عن مكناس وتاريخها أنساه أن رئيسه السابق صلاح الدين مزوار كان في يوم من الأيام نائبا برلمانيا عن المدينة قبل أن يصبح بفضل هذا المقعد وزيرا للخارجية والتعاون في حكومة بنكيران، فماذا أسدى لمكناس؟ فأغلب السياسيين من أمثال الطالبي العلمي وبوسعيد لم يستوعبوا بعد أن المغاربة عموما والمكناسيون تحديدا استفاقوا من سباتهم، ولن يسمحوا بعد الآن أن يضحك على ذقونهم خصوصا مع سقوط كل الأقنعة بلا رجعة.
وما دام القاسم المشترك بين قادة الأحرار هو علاقتهم بالعديد من الفضائح المرتبطة بمسؤوليات التي تحملوها، فالرحالة السياسي سعيد شباعتو واحد ممن بصم على نفس مسار زملائه منذ الإلتحاق بهم بعدما نفذت “التغميسة” من صحن حزب “الوردة” ويبدو أن مقامه بينهم لن يطول لأن سيناريو إبعاده يطبخ في الكواليس وهذه أكبر صفعة لمن يطلق عليهم بالدارجة المغربية “كاري حنكو”.
ولسوء حظ مكناس أنها ابتليت بواحد من السياسيين الذي نشأ بين السطحية في الثقافة السياسية والغرور، ولا يهتم سوى بالقشور، فهو يعارض ويتظاهر ويتحدث عن الديمقراطية والشفافية وهو لا يمارسها، مثله كمثل الشاطحِ الممتنع في الخوض في أي نقاش معمق وزين. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه راح يستنجد ب “مسامير الميدة” من حزبه لمناصرته على مواجهة بووانو واسترجاع بعض من شعبيته التي تدنت بفعل سلوكه الطائش. ولن نزيد فوق هذا حتى تنضج العقول وترقى الأفعال وتصير في مستوى النقد، فالسياسي المتمكن يمتاز بالمهنية والدقة والبحث في عمق الأمور، مع انتقاء الأفضل للمصلحة العامة، أما “النفخ بالكير ” و “سلخ الجلود” فهي من صفات المراهقين الدخيلين على السياسة، مثلهم كمثل البرميل الذي يُصدِر صوتا عاليا إن كان فارغا، ويخبو صوته إن كان مليئا.