المضيق الفنيدقسلايدر الرئيسيةمجتمع
يجني أصحابها “ثروة من دريهمات” .. ظاهرة التسول تغزو شوارع مدن الشمال وتؤثر سلبا على مظهرها العام و السياحة
متسولون محترفون راكموا ثروات مستغلين سذاجة المغاربة وطيبتهم
رضوان الحسوني
تطرق ربورطاج لجريدة المساء اليومية، اليوم الإثنين، لظاهرة التسول التي غزت شوارع مدن جهة طنجة تطوان الحسيمة ، حيث يجني أصحابها من وراءها على “ثروة من دريهمات”.
بلغ إلى علم “المساء” سعي السلطات المحلية بإقليم المضيق الفنيدق، بتعاون مع هيئات مدنية محلية، إلى تنظيم حملة واسعة لمحاربة ظاهرتي التسول والتشرد بمدن الإقليم في إطار برنامج طموح تدعمه المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتشارك فيه عدة مؤسسات رسمية وأخرى مدنية، فانتقلت الجريدة إلى مقر جمعية “أم الأيتام” بمدينة مرتيل لتلتقي بأفراد اللجنة الإقليمية للتنمية البشرية المسؤولة عن تنفيذ وتتبع هذا البرنامج، لتطّلع عن كثب على طبيعة عملها وتنقل إلى الرأي العام برنامج أنشطتها وتفاصيلها.
ورغم توصلها بتقارير دقيقة وشاملة توضح حيثيات عمل اللجنة، أبت “المساء” إلا أن تنزل إلى الميدان بمرافقتها لإحدى الدوريات المختلطة المتنقلة بين شوارع وأزقة مدن الإقليم الثلاثة (مرتيل، المضيق والفنيدق) في مهمة دامت ثلاثة أيام عاينت فيها حالات تشرد وتسول ساهمت في كشف بعض خباياها، بعد محاورة أبطالها واستبيان ظروفهم الاجتماعية والنفسية ومبررات تعاطيهم لهذا النشاط بالنسبة للمتسولين، وأسباب السقوط في حياة الشارع بالنسبة للمتشردين.
لجنة ثقيلة وخلية خفيفة..
تتشكل اللجنة الإقليمية للتنمية البشرية على مستوى عمالة إقليم المضيق الفنيدق والمعهود إليها الإشراف على تنفيذ وتتبع برنامج القضاء على ظاهرتي التسول والتشرد بالإقليم، من تمثيليات لعدة قطاعات هي وزارة الصحة، التعاون الوطني، الجماعات الترابية الحضرية للمدن الثلاثة (مرتيل، المضيق والفنيدق)، السلطات المحلية، بالإضافة إلى الجمعية الخيرية “أم الأيتام” بمرتيل ممثلة للمجتمع المدني.
وتسهر هذه اللجنة على إعداد وتنفيذ مخطط عمل واضح المعالم، محدد بالزمان والمكان، يبين حدود تدخلها ونطاق عملها حيث توزع مهام تدخلها على وحدات ميدانية خاصة تضم ممثلين عن كل القطاعات المعنية، تناط بكل منها منطقة معينة. ورافقت “المساء” إحدى هذه الخلايا خلال ثلاثة أيام من عملها، حيث ضمت قائدا يمثل السلطة المحلية مدعوما ببعض أعوان السلطة، وموظفا عن مؤسسة التعاون الوطني وإطارا يمثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بالإضافة إلى ناشطين جمعويين أحدهما مختص في الدعم النفسي والاجتماعي والآخر متطوع.
وتسهر هذه الوحدات على التجول والتنقل بين أحياء المدينة داخل الحيز المجالي المحدد لنطاق تدخلها بحثا عن المتشردين والمتسولين، حيث يفتح معهم في عين المكان بحث اجتماعي مبدئي للتعرف على ظروف الحالة المعنية ومدى إمكانية إيوائها بمركز “ميكسطا” الذي شهد عملية تأهيل جعلته مستعدا لإيواء 70 شخصا في ظروف جيدة سواء من حيث المبيت أو الأكل والملبس، ناهيك عن الدعم النفسي والمراقبة الصحية.
قسوة قدر..
عند تنقلها رفقة وحدة البحث الخاصة المكونة من رجل سلطة (قائد) وأعوان سلطة وإطارين من مؤسسة الأعمال الإجتماعية وناشطين جمعويين، اكتشفت “المساء” حالات صادمة لمتسولين ومتشردين دفعت بهم أسباب قاهرة إلى الرحيل عن أسرهم وأقاربهم وهجرة دور الرعاية الاجتماعية للارتماء في حضن الشارع الموحش. وأول حالة التقت بها، كان الفتى ياسين (14 سنة) الذي ينحدر من إحدى قرى إقليم بني ملال، والذي حكى كيف اضطر إلى تحمل قسوة عشيق أمه الذي كان يعيش معها في منزلهم بعد طلاقها من والده، وتذكر ياسين بحرقة كيف لم يطق الصبر على معاناته المتكررة معه بعد تجرئه على الاعتداء عليه جنسيا كلما غابت والدته عن المنزل. وما حز في نفس ياسين ودفعه مباشرة للرحيل عن البيت، هو تكذيب والدته له عندما اشتكى لها من اعتداءات خليلها الذي أنكر أفعاله أمامها، بل نهرته وأنبته متهمة إياه باختلاق حكايات بغية طرد صديقها من المنزل.
حالة مماثلة التقت بها الخلية المتنقلة تخص الطفل يوسف (15 سنة) المتحدر من ضواحي مدينة آسفي، والذي كان في حالة تخدير بسبب تناوله لأقراص مهلوسة، حملته الوحدة معها على متن سيارة الخدمة، واعتنت به إلى غاية استعادته لوعيه ليسرد هو الآخر الظروف المزرية التي عاشها مع أمه المطلقة وإخوته الأربعة حيث كانوا يبيتون في غالب الأحيان بدون عشاء رغم خروج أختيه للعمل الموسمي في جني الفواكه، وعمل والدته خادمة مياومة تشتغل يوما وتظل أياما أخرى بدون عمل. ومع اشتداد الفقر وضيق ذات اليد، غادر يوسف بلدته متوجها نحو الشمال حاملا معه حلم الهجرة إلى الديار الأوروبية. وهو الحلم الذي لم يفارقه للحظة حيث حاول مرات متعددة الهجرة السرية عبر المعبر الحدودي البري دون جدوى ومستعد لمعاودة الكرة مرات ومرات، وفي انتظار ذالك يقضي يومه في تسول ما جاد كرم المواطنين يصرفه في الأكل والتدخين وتعاطي الأقراص المخدرة، وبسبب إدمانه على هذه الأخيرة كان يوسف يفر دوما من مركز الرعاية الاجتماعية بسبب حاجته الملحة إلى المال لاقتناء المخدرات، فيحصل عليه من احترافه التسول.
وبعد إذن يوسف ربطت “المساء” الاتصال هاتفيا بأمه لإبلاغها بوضعية ابنها ورغبته في الهجرة السرية، غير أن الأم رحبت بفكرة الهجرة السرية متمنية أن ينجح في محاولته علٌه “ينقذ” نفسه وعائلته، وجوابا عن تساؤل “المساء” حول عدم قلقها على حياة ولدها حين يخاطر بنفسه في الهجرة، قالت بعظم لسانها “لو نجح في الهجرة فهذا ممتاز، ولو مات فذاك قدره !”
مهمة صعبة..
تجد الضابطة القضائية نفسها في حرج، وأحيانا تسقط في ارتباك أثناء بحثها مع المتسولين، نظرا لحساسية موقفهم إزاء أفراد يفترض معاناتهم مع الفاقة وعيشهم حياة البؤس والحرمان من أبسط ضروريات العيش الكريم، ما جعلهم يلجؤون إلى مد يد الاستعطاف للآخر لمساعدتهم. لكن الأمر اختلف مع تنامي هذه الظاهرة، حيث تؤكد عائشة الخمليشي، رئيسة جمعية “أم الأيتام”، وهي شريكة السلطة المحلية في برنامج محاربة التسول، على بروز عدة حالات لمتسولين محترفين منهم من بلغ حد الاغتناء من نشاط التسول، واكتشاف عصابات ومافيات تحتكر مناطق بعينها وتكري أهمها إلى متسولين محترفين يستدرون شفقة المارة بالتظاهر بالإصابة بأمراض خطيرة أو بعاهات مستديمة، فيما آخرون، تضيف الخمليشي، يستغلون رضعا وأطفالا قاصرين لكسب تعاطف المواطنين وربح مداخيل أكبر، وصار الأمن يتعاطى بحذر مع هؤلاء المتسولين خاصة من ثبتت فيهم حالات العود والذين يأبوا النزول في المراكز الاجتماعية للإيواء. وبتفعيل المقاربة الزجرية في حق هاته الفئة من المتسولين المحترفين، يؤكد مصدر قضائي ل”المساء”، تراجع عددهم بمدن الإقليم، لكن هذا لا يعني تركهم لنشاط التسول، بل فقط يغيرون الوجهة ويرحلون لمدن أخرى لا زال لا يعرفهم فيها أهاليها.
ومن جانبه، فطن القضاء لهذه الثغرة التي استفاد منها المئات من المتابعين بجنحة التسول، حيث كانوا يتابعون في حالة سراح مؤقت، وكان التعاطف إن لم نقل اللامبالاة هو العنصر السائد في متابعاتهم، رغم أن القانون الجنائي المغربي يعاقب المتسولين بعقوبات حبسية سالبة للحرية، حيث تتراوح العقوبة بالفصل 326 من القانون الجنائي من شهر إلى ستة أشهر حبسا، كل من كانت لديه وسائل العيش أو كان بوسعه الحصول على عمل لكنه تعود على ممارسة التسول بطريقة اعتيادية، وتزيد هذه العقوبة في فصول أخرى في حال التظاهر بعاهة أو استغلال القاصرين. ودأب جل المسؤولين القضائيين على إطلاق سراح المتابعين بجنحة التسول لصعوبة إثبات كون المتسول وجد عملا مدرا للدخل وتركه بغرض احتراف التسول.
لكن، أكد مصدر مسؤول ل”المساء”، أن توجها حكوميا جديدا ينحو صوب رفع درجة الحزم والصرامة مع ممتهني حرفة “التسول”، سيما بعد الانتشار المهول لهذه الظاهرة، وبعد ظهور عصابات تغتني منها، فأصبح القضاء شديدا عند معالجته لملفات الأفراد المتابعين بجنحة التسول الاعتيادي حيث صارت العقوبات الحبسية تلاحقهم ما جعل زملائهم في الحرفة يعيدون حساباتهم خوفا من قضاء بضعة أشهر وراء القضبان.
وأجمع جل المتسولين المحترفين الذين استجوبتهم “المساء” على عزمهم الانقطاع عن التسول في حال مواجهتهم لخطر المتابعة والإدانة ثم الحكم عليهم بعقوبة سالبة للحرية.
عصابة نسوية..
المثير في التحقيق الذي أجرته “المساء” بإقليم المضيق الفنيدق هو اكتشافها لحقائق صادمة وخطيرة حول ظاهرة التسول بالمنطقة، فقد جاء على لسان مصادر أمنية، أنها نجحت في إلقاء القبض على عصابة مكونة من النساء تسيطر على “سوق” التسول بمدن مرتيل، المضيق والفنيدق حيث كن يلجأن إلى استغلال عدد من العجزة وذوي العاهات والإعاقات، إضافة إلى الرضع والأطفال لكسب أموال طائلة عن طريق استدرار عطف المواطنين بإظهار الضعف والعجز والفقر. وكانت هذه العصابة النسوية تعمد على توزيع المتسولين الذين يشتغلون تحت إمرتها على نقاط “استراتيجية” بالمدن تشهد ازدحاما للمارة أو للسيارات تحتكرها لوحدها، منها أبواب المساجد والصيدليات والمخابز وحول ملتقيات السير… وعلمت “المساء” أن مسيرة هذه العصابة كانت تعد برنامجا محكما لتوزيع المتسولين على جميع أنحاء المدينة وكأنها تدير شركة بها عشرات العمال، إذ كانت تسهر على جمع واستخلاص مداخيل المتسولين نهاية كل يوم عمل، فمنهم من يؤدي سومة ثابتة نظير استغلال أماكن التسول، بينما آخرون يقدمون لها مجموع “الصدقات” المستخلصة، وهي تكافئهم بمنحهم نسبة من المداخيل مع توفير مكانا لهم للمبيت.
الحل في الزجر
من بين الأسباب التي كانت تمنع القضاة عن تطبيق القانون بحذافيره وإصدار أحكام بالسجن في حق جل المتابعين في قضايا التسول حتى الذين سجلت في حقهم حالات العود، يشير مصدر قضائي ل”المساء”، هو غياب مراكز للرعاية الاجتماعية أو عدم أهليتها لاستقبال أعداد كبيرة من هذه الفئة التي تعاني الهشاسة في أقسى مظاهرها، وهو ما يدفع القضاة إلى إطلاق سراحهم في ظل غياب بديل يوفر لهم ضروريات العيش. لكن الآن، والحديث عن إقليم المضيق الفنيدق، بعد تأهيل مركز “ميكسطا” وإعداده لاستقبال 70 نزيلا، صار القضاة يتجهون إلى إحالة المتسولين المتابعين إلى هذا المركز، وفي حالات العود لايرأفون بهم حيث يحكمون عليهم بأحكام بالسجن تختلف حسب الحالات، ويفسرون احكامهم وفق مصدر “المساء” بضرورة ردع هؤلاء المتهمين الذين يفضلون ممارسة نشاط التسول غير القانوني، على العيش في مركز الرعاية الاجتماعية رغم ما يوفره لهم من شروط الحياة الكريمة.
وفي غياب إحصائيات رسمية إلى حدود الساعة، اكدت مصادر متطابقة تنوعت بين نشطاء جمعويين ومصادر قضائية ومحامين، على تراجع عدد قضايا التسول المسجلة بالمحكمة الابتدائية بتطوان من جهة، وملاحظة نقص واضح في عدد المتسولين بمدن الإقليم. وهو ما أرجعته عائشة الخمليشي، رئيسة جمعية “أم الأيتام” بمرتيل، إلى تفعيل المقاربة الزجرية في مواجهة هذه الآفة الاجتماعية، بدءا بتوخي رجال الأمن الجدية والحزم في عمليات البحث والتحقيق مع الموقوفين بتهمة مزاولة التسول الاحترافي، ثم بسيادة الصرامة لدى القضاة المعروضة على أنظارهم مثل هذه القضايا. ويقدم الإقليم، وفق ذات المصدر، مثالا لكل المدن الأخرى للاحتداء به سعيا إلى الحد من هذه الظاهرة التي تؤرق المجتمع المغربي، وتسيء إلى صورة المغرب داخليا وخارجيا.
ثروات من دريهمات
عثرت عناصر الشرطة القضائية بالمنطقة الأمنية للمضيق خلال أبحاثها التمهيدية مع 11 حالة من المتسولين الموقوفين بجنحة احتراف التسول، على مبلغ إجمالي لديهم بلغ 330 ألف درهم منها 97 ألف درهم كانت بحوزة حالة واحدة فقط.
كما اكتشفت امتلاك هؤلاء الموقوفين لعقارات ناهزت قيمتها التسويقية 244 مليون سنتيم. وهو ما يعكس بجلاء حجم الرواج المالي الذي يدره هذا النشاط غير القانوني، ويبقى الضحية هو المواطن البسيط الذي يتم استغلال طيبته وسذاجته لمراكمة الأموال الطائلة، بينما ينصح المرصد الوطني للطفل عموم المواطنين بتغيير طريقة دعمهم للفقراء والمحتاجين، حيث يقترح، بدل منح درهم او درهمين يوميا للمتسولين، جمع هذه الدريهمات ومنحها كل شهر لأسرة معوزة على شكل مواد غذائية تسلم لها يدا في يد. وبهذا يكون الفعل الإحساني ذي نتيجة ملموسة يترك أثرا واضحا على المحتاجين، ومن جهة أخرى يطمئن المواطن لعدم استغلال دراهمه في الإثراء غير المشروع.