مقالات الرأي
مسرح سيرفانطيس الكبير الشاهد على العصر الذهبي لطنجة
ذ. محمد عزيز الطويل
بالقرب من القنصلية الفرنسية وعلى منحدر شارع أنوال، تتواجد واحدة من أجمل وأشهر الأعمال المعمارية الثقافية بطنجة. إنه مسرح سيرفانطيس الذي يعد المسرح الوحيد في المغرب الذي بني وفقا للقواعد المعمارية الكلاسيكية لفن المسرح الأوربي. ويمثل مسرح سيرفانطيس رمزا للتواجد الإسباني والتأثير الإيبيري بطنجة، وتأسس سنة 1913 ليصبح بذلك أكبر مسرح في شمال إفريقيا، وقد قامت إسبانيا بتفويته إلى المغرب بشروط منها تأهيله وترميمه حسب المواصفات العالمية للترميم، وعدم استغلاله في أي نشاط ما عدا ما يرتبط بالفن والثقافة.
ويرجع الفضل في بناء مسرح سيرفانطيس إلى مهاجرين إسبانيين من قادس، فضلا الإقامة بطنجة مع بداية القرن العشرين، في وقت كانت طنجة ملاذ للحالمين والعاشقين والفنانين والمغامرين والباحثين عن الحرية والثروة. والمسرح في حد ذاته شاهد على الفترة الذهبية التي عاشتها طنجة خلال تواجد جالية أوربية كبيرة مثلت مختلف الدول الأوربية، واستمر التألق خلال فترة الإدارة الدولية الممتدة من 1923 إلى 1956. وبعدما استضاف مشاهير كبار في الأوبرا والغناء والتمثيل والمسرح، أصبح في نهايته يستضيف عروض السينما والملاكمة. وقد أغلق هذا المسرح الفريد من نوعه سنة 1962. ومن جانبه ينتظر المغرب التصديق النهائي على اتفاق التفويت والهبة من قبل غرفتي البرلمان الإسباني، للبدء في الدراسات التقنية الخاصة بالترميم.
فيما يخص تاريخ بناء المسرح، يرجع بناؤه إلى الزوجان “مانويل بينيا رودريجير” و “إسبيرانزا أورييانا”،وقد استقر مانويل بطنجة بعدما كان ممارسا للصيد بقادس الاسبانية، وجاء لطنجة بحثا عن الثروة، وتكلف بإدارة ثروة عم زوجته “أنطونيو نونيز ريينا”. وبعد وفاة عم الزوجة ورثا ثروته وجميع ممتلكاته، باعتبارهما الوريثان الوحيدان له، وأمام ولعهما بالمسرح، استقر رأيهما على بناء أكبر مسرح بطنجة إرضاء لزوجته وحفاظا على الثقافة الاسبانية بقلب طنجة الدولية. خاصة مع التواجد الفرنسي والبريطاني القوي بالمدينة، في وقت كان الصراع على أشده بين مختلف القوى للسيطرة على طنجة بسببه موقعها الاستراتيجي، ومد النفوذ على كل المغرب.
ووضعت الحجرة الأولى لأساس المسرح يوم الثاني من أبريل 1911، وتولى التصاميم المهندس المعماري “دييغو خيمينيز أرمستورنغ”، الذي ولد بطنجة سنة 1844، وهو من أصول إسبانية، وحصل على دبلوم الهندسة المعمارية من مدرسة الهندسة بباريس، وكان له صيت كبير في مجال الهندسة المعمارية بطنجة نظرا لتصاميمه الرائعة. وله أعمال عديدة بطنجة، خاصة للأغنياء اليهود الذين استقرورا بطنجة. وبني المسرح بموقع متميز له إطلالة رائعة على خليج طنجة، ويمنح نظرة استثنائية للساحل الجنوبي لإسبانيا. وهو قريب من ساحة فرنسا والحي الأوربي ببولفار باستور. ويقع حاليا بشارع أنوال. ورصد له مبلغ 650000 بسيطة لبنائه، وهو مبلغ طائل خلال تلك الفترة. تكلف المهندس المعماري “أرمستورنغ” بوضع التصاميم الخاصة بالمسرح، الذي سيشكل رمزا للثقافة الإسبانية الإيبيرية بطنجة. واستقدم “أرمستورنغ” مواد البناء من إسبانيا، واستعمل الاسمنت المسلح في البناء لضمان المتانة والصلابة، والقدرة على استيعاب أكبر عدد من الجمهور.
ما يجعل المسرح الكبير سيرفانطيس تحفة معمارية قبل الحديث عن دوره الثقافي، هو اختيار اسم الروائي الاسباني الشهير “ميغيل دي سيرفانتيس” للمسرح، وهو ما منحه شهرة عند انطلاقه. إضافة إلى اللوحات الجدارية للقبة المتشحة بزرقة السماء والتي أنجزها الرسام الإسباني “فيديريكو ريبيرا بوساطو”، وصمم المنحوتات الخارجية الفنان الإسباني “كانديدو ماطا كاناماكي”. كما وضع المهندس المعماري عشرة آلاف مصباح إضاءة، مستوحيا الفكرة من المسرح الملكي بمدريد .
وافتتح المسرح بشكل رسمي يوم 11 دجنبر 1913، وهو يسع ل 1400 مقعد، لتبدأ مسيرة المسرح في استقبال مختلف العروض المسرحية والغنائية والأوبرا. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، استضاف المسرح عروض الأوبرا لمشاهير من أمثال “أديلينا باتي وإنريكو كاروسو، وعروض مسرحية من أداء ماريا كيريرو وماركاريتا شيرغو،”، كما استضاف النجم المصري يوسف وهبي وفاطمة رشدي، إضافة إلى الكوميدي الفرنسي “سيسيل سوريل”، وعدة عروض للفرقة المسرحية الطنجية الهلال، كما استقبل المسرح عروضا متميزة من قبيل مسرحية عطيل باللغة العربية سنة 1929. إلى جانب استقباله لمشاهير الغناء الإسبان خلال فترة الإدارة الدولية.
أمام ضعف مردودية المسرح ومصاريفه الباهضة الخاصة بالموظفين والصيانة والإضاءة وغيرها، اضطرا مالكا المسرح إلى تفويته إلى الدولة الإسبانية سنة 1928 مقابل مبلغ 450000 بسيطة. وانطلاقا من خمسينيات القرن الماضي سيتعرض المسرح إلى ركود كبير مما سيجعل المسيرين يقيمون عروض المصارعة، وليتحول بعد ذلك من مركز إشعاع فني وثقافي إلى حلبة مصارعة. وبعد حصول المغرب على استقلاله ورجوع طنجة إلى حضن الوطن سنة 1956، شهد المسرح ركودا كبيرا بفعل المغادرة التدريجية للإسبان لطنجة والعودة لإسبانيا. فكانت البداية الحقيقية لتخلي الدولة الإسبانية عن مسرح سيرفانتيس، فتحول المسرح إلى صالة سينما. وأغلقته الحكومة الاسبانية بشكل نهائي سنة 1962. وما بين سنتي 1972 و 1992، سيتم كراؤه بدرهم رمزي عن كل سنة لبلدية طنجة دون أن يتم فتحه من جديد. وهو ما جعل المسرح في حالة حرجة جدا خاصة مع غياب الترميم والصيانة.
مع المشاريع والأوراش الكبرى التي أطلقها الملك محمد السادس بمدينة طنجة، كان للتراث والبنايات التاريخية مكانة واهتمام بالغ، حيث رممت العديد من الأسوار والأبواب والبنايات التاريخية. في إطار هذه الدينامية، تم الاهتمام بإعادة مسرح سيرفانتيس إلى عصره الذهبي، والتخطيط لمباشرة عملية الترميم، خاصة من جمعيات مهتمة بالمآثر التاريخية بطنجة، لكن الأمر لا زال يحتاج إلى ترتيبات إدارية وقانونية تتمثل في التفويت الرسمي للمسرح إلى المغرب، وتقييده ضمن سجل التراث الوطني.
ورغم دعوات العديد من الفعاليات بالمدينة من أجل إنقاذ مسرح سيرفانطيس، التي صادفت ذكراه المائوية سنة 2013، إلا أن شيئا لم يتغير وبقي المسرح على حاله يقاوم رطوبة طنجة. وبذل المغرب جهودا لدى إسبانيا من أجل الحصول على المسرح، والتوصل إلى اتفاق لإنقاذه، ورفضت إسبانيا دفع أي مبلغ من أجل ترميم بناية تاريخية خارج إسبانيا، في المقابل فضلت انطلاقا من سنة 2015 تفويت المسرح للمغرب بشرط العمل على تأهيله، غير أن تعثر الحياة السياسية بإسبانيا أخر ذلك. وعاد الحديث عن ترميم معلمة سيرفانطيس سنة 2018، لكن لجنة عن منظمة اليونيسكو أوقفت العملية مبينة أن تصاميم الترميم لا تحترم معايير البناء الأصلي. ويوم 9 فبراير 2019، قررت الحكومة الإسبانية تفويت المسرح للمغرب مقابل ترميمه وعدم استغلاله في أي أنشطة خارجة عن ميدان الفن والثقافة، والحفاظ على الطابع الإسباني بالمسرح. وبهذا يستعد المسرح إلى الرجوع إلى وهجه بعد التصديق على اتفاقية الهبة الاسبانية والبدء في دراسات الترميم. ومما لا شك فيه أن مسرح سيرفانطيس سيشكل معلمة تاريخية وعمرانية و قيمة مضافة في العرض السياحي والثقافي بطنجة، وهو ما من شأنه الحفاظ على ذاكرة طنجة خلال النصف الأول من القرن العشرين عندما كانت طنجة قبلة لمشاهير الفن والثقافة والمسرح والأعمال.