مقالات الرأي
نوفل الناصري :استراتيجيات الانقلاب على المعادلة الإصلاحية بالمغرب
بداية، وبالموازاة مع تولي بنكيران رئاسة الحكومة يوم 3 يناير 2012، انطلقت مجموعة من الحملات المشبوهة والمسعورة بشكل مباشر وغير مباشر ضد الحكومة التي يقودها عموما وحزب العدالة والتنمية خصوصا، والتي بدأت بالاستهزاء والاستخفاف بشخصه ولباسه وسلوكه، وتأويل كل حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله، إلى محاربة مباشرة -بحق أو بدونه-لبرنامج عمله ولسياساته التي ألزمتها الوضعية الحرجة وغير المستقرة التي كانت سائدة. وكانت الوسيلة التي اعتمدها معارضوا ورافضوا هذه الحكومة الديمقراطية، ومازالت، هي بعض الصحف الحاقدة وبعض المواقع الالكترونية الموجهة وبعض الأقلام المدفوعة الثمن التي حاولت تشويه وكسر إرادة الحكومة قبل التنزيل العملي لبرنامجها…
ثم انتقلت المعركة بعد ذلك إلى محاولة للتشويش وإفساد العلاقة بين جلالة الملك وبين رئيس الحكومة، مستغلين في ذلك ما سموه “قانون ما للملك وما لبنكيران” واتهموه بالتنازل عن المزيد من صلاحياته لصالح القصر، غير أن تبصر وحكمة الملك، وإخلاص وصدق واحترام بنكيران له حال دون ذلك، حيث قال جملته المشهورة “هناك 30 مليون مغربي يمكن أن يكونو رؤساء حكومة، لكن هناك ملك واحد ضامن للوحدة ولاستقرار البلاد”. وفي مناسبة أخرى وجه رسالة أشد وضوحا إلى خصومه، فقال:” من كان يعول باش ندخل مع الملك فشد ليا نقطع ليك راهم غالطين، أنا مصلحش ليهم ويقلبوا على شي حد غيري”…
بعدها، جاؤوا ببعض رؤساء الأحزاب – شعبويين- أو ساعدوا على ذلك، والذين بدأوا بهاجمة الحكومة بشتى أنواع الطرق، من سب وقذف وتهكم واتهام لبنكيران بأنه عميل مخابراتي لدولة إسرائيل، وأنه على علاقة مع جبهة النصرة، وأنه مع داعش، وأنه سبب الفيضانات والحروق، واعتقدوا أنهم بهذا الهجوم يستطيعوا منافسة بنكيران وكسر هيبته باعتبار أن شخصيته الطبيعية وأسلوبه في التعامل وسلوكه القريب من الشعب، هي التي جعلت الفاعل الوحيد والمتميز في الساحة السياسية المغربية، غير أن هذا الأسلوب ما فتئ يزيد من شعبيته وشعبية حكومته، واقتنع الشعب أنه هو الأمل بين هؤلاء…
علاوة على ذلك، حاولوا مرارا وتكرارا تفجير حكومة بنكيران الأولى من الداخل، باختلاق اشكالات واهية وايهام الرأي العام بأن هناك مشاكل داخلية وغياب تام للانسجام بين أعضائها، انتهت بخروج غير مبرر وغير مفهوم لحزب الاستقلال (وإن بدأت تتضح أسبابه مؤخرا)، علما أن الوزراء المنتمين لهذا الحزب كانوا الأكثر توافقا مع رئيس الحكومة. جاء هذا الخروج في توقيت مشبوه، ذلك أن جلالة الملك بكونه رئيس الدولة كان خارج التراب الوطني، بالإضافة إلى الأوضاع المضطرب والخطيرة التي كانت تعيشها المنطقة والتي كان المغرب مهدد بها وبتداعياتها. هذه الفرصة وهذه المحاولة لكسر النهج الإصلاحي للحكومة وعزل حزب العدالة والتنمية، أعمىت بصيرة هؤلاء عن مدى خطورة محاولاتهم هذه التي كانت ستُدخل البلد في لائحة الدول المضطربة وآثارها المدمرة للتنمية الاقتصاد وللسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي…
استمرت المعركة بعد تشكيل حكومة بنكيران الثانية، وهذه المرة بأسلوب جديد، تمثل في محاولة إنهاك وجر الحكومة لصراعات فكرية وقيمية هامشية بدأت باختلاق مشاكل ومطالب من قبيل: الدفاع عن حرية الشذوذ الجنسي، والخيانة الزوجية، والعري والتقبيل في الأماكن العامة وباحة مسجد حسان، والحرية في الأكل والشرب في رمضان، والمطالبة بزواج المثليين، وعرض الأفلام المغربية المخلة بالآداب وبسمعة المغربيات في السينمات العمومية، ونقل سهرات رقص العري في القنوات الوطنية، بالإضافة إلى المطالبة بالمساواة في الإرث، كل هذا في انتهاك تام لثوابت الوطن والشعب واستفزاز جريء لمشاعر الملايين من المغاربة، وتشويه واضح لصورة المغرب، وتدنيس صريح لسمعة وشرف وكرامة المغربيات، وإساءة عظمى لتاريخ المملكة ولإمارة المؤمنين...
بعد فشل هذه الأسلوب، اتجهوا إلى اتهام بنكيران بأنه يحارب المرأة والطبقة الفقيرة والطبقة العاملة والمعطلين لصالح بعض الباطرونا والسياسين، وهؤلاء يتهمونه في المقابل بأنه في صف الضعفاء والسياسيين على حساب مصالح الأغنياء، والسياسين يتهمونه انه يعمل لصالح الفقراء والعمال والمعطلين والباطرونا استعدادا للانتخابات وضد مصالح السياسيين المنافسين، في غياب تام لأي دليل ولأي اقتراح لكل طرف، وكانت الوسيلة هذه المرة، النزول إلى الشارع ببعض المظاهرات الهزيلة والمشوهة تقدمتها الحمير (نعم الحيوان) والمشرملين وبعض خصوم رئيس الحكومة. أما المعارضة الحزبية، فقد ذهبت تشتكي أمام باب القصر الملكي من بنكيران لأنه وظف اسم الملك في إحدى صراعاته.
وحسب المتتبعين السياسيين والمحللين الاقتصاديين والفاعلين الجمعويين، فبالموازاة مع هذه الخطط والهجمات المتتالية، كانت للحكومة معارضة محتدمة مع أطراف أخرى، تمثلت في اللوبيات المستفيدة من دعم نظام المقاصة، ومن لولبيات المواد البترولية وموزعي الغاز، ولوبيات الدواء، والمخابز، وحروب دفاتر التحملات الخاصة بقنوات القطب العمومي، إضافة إلى المعارضة المؤسساتية وعرقلة تنزيل قرارات الحكومة. كل هذا كان في سياق استثنائي تمثل في ابتلاع صندوق المقاصة ل54 مليار درهم، و7.3% كنسبة عجز الميزانية، وعدم وجود الموارد المالية لتأدية أجور الموظفين وتوجه وزير المالية آنذاك إلى الابناك الدولية للاقتراض، و24.4 % كنسبة عجز الميزان التجاري، و9.7% كنسبة عجز الحساب الجاري لميزان الأداءات، ومعدل نمو ضعيف 2.9% وأعداد كبيرة من العاطلين مضربة في الشارع وداخل مؤسسات الدولة تبحث عن العمل، بالإضافة إلى الزيارات والمهام المتتالية لصندوق النقد الدولي لمراقبة مالية المغرب وتنقيطها...
بالرغم من كل هذا، وعكس ما كان متوقعا، وبفضل الله، والتوجيهات السامية لجلالة الملك، والنهج الإصلاحي الذي تبنته حكومة بنكيران بالشراكة مع كافة السياسيين الوطنيين والفاعلين والمصلحين، استعاد المغرب التوازنات الماكرواقتصادية والعافية للمالية العمومية الأمر الذي نتج عنه تحسن غالبية المؤشرات الاقتصادية، وتحسن استثنائي لمناخ الأعمال ولتدفقات الاستثمار الأجنبي، واعتباره البلد الأكثر أمنا واستقرارا في افريقيا. إضافة إلى ذلك، اتخذت الحكومة إجراءات اجتماعية بامتياز كإقرار الدعم المالي المباشر للأرامل، ومضاعفة منح الطلبة في المبلغ والعدد، وخفض ثمن أزيد من 1200 دواء، والرفع من الحد الأدنى للأجور والعمل بالتعويض عن فقدان الشغل، وحماية القدرة الشرائية والتحكم في مستويات التضخم في حدود 1,8 %.
بعدما صُدم خصوم الإصلاح بإنجازات الحكومة الإيجابية، راهنوا على الانتخابات الجماعية والجهوية الماضية، وحاولوا استمالة الشعب بشتى الطرق لمعاقبة الحكومة وذلك بعدم التصويت لحزب العدالة والتنمية باعتباره حزب رئيس الحكومة، وهنا كانت الصدمة الثانية، وزلزال انتخابات 4 شتنبر 2015 السياسي، والانتكاسة العظمى التي أتت على محاولاتهم وخططهم وأموالهم وسيناريوهاتهم ، فلقد بوأ الشعب حزب العدالة والتنمية الصدارة، وضاعف مقاعده ثلاث مرات ونصف وانتقلت من 1513 سنة 2009 إلى 5021 سنة 2015، وتبوَّأ المرتبة الأولى على مستوى المدن الكبرى بترأسه ل 54% من الجماعات ما فوق 100 ألف نسمة -19 مجلس من أصل 35-، وظفر بعمادة 100%من المدن الست التي تشتغل بنظام المقاطعات، وفاز برئاسة جهتين استراتيجيتين –الرباط وتافلالت- ويشارك في تسيير 4 جهات، وشكل فريق من البرلمانيين لأول مرة في مجلس المستشارين…
وفي الوقت الراهن، مازلنا نعيش تداعيات هذا الزلزال، فلقد تغيرت وسيلة مواجهة ومحاربة الحكومة ورئيسها للمرة الثامنة، وانتقلوا إلى نهج آخر يقوم أولا على محاولة عزل رئيس الحكومة، والكل يعرف ما وقع بخصوص المادة 30 من قانون مالية 2016، وما يقع بسبب مذكرة اللغة الفرنسية، وثانيا، إشعال الشارع بطرح مطالب مشروعة وحقيقية لكن توقيتها مُبطَّن وطريقة المرافعة مشبوهة، تحاول خلق مواجهة مباشرة بين الشعب والحكومة والتركيز على إظهار المفارقات وعل الريع وتيئيس المواطنين، وغالبا ما تجد رموز التحكم يساهمون أو طرفا فيها، كما وقع في مشكل أمانديس في طنجة، والخدمة الاجبارية للطلبة الأطباء، واحتجاجات الطلبة الأساتذة، وما نعيشه اللحظة من مشكل 2 فرانك. والعجيب في الأمر هو هذا الغياب التام، ولو بالرأي، للأحزاب السياسية وللمهنيين وللنقابات وللخصوم وللمفسدين وللمتحكمين وللحاقدين، أين هم؟ ما رأيهم؟ ماذا يقترحونه؟ أين إعلامهم؟ أين أقلامهم؟ أين عمَّالهم؟ أين مريدوهم؟ لماذا لم تُوجه وسائلهم الإعلامية للبحث بجدية عن الريع الحقيقي وعن أسبابه وعن تجلياته؟ لماذا لا ينظمون ندوات تفضح المتهربين الضريبين والمستفيدين بدون وجه حق من أموال الشعب؟ كيف وبسهولة وبسرعة اقترح البعض –بقصد أو بدونه -مقاطعة الانتخابات؟ لماذا لا يطالبون برؤوس أولئك الذين خرج ضدهم الشعب؟ لماذا لا يوضحون للشعب من أين يأتون بهذه الأموال الطائلة؟ فقط لنعرف هل هم مع أو ضد وماهي مبرراتهم. هذه أسئلة توضح من وراء هذا السيناريو ومن له المصلحة في كسر هيبة المؤسسات والاجهاز على عملية الانتقال الديمقراطي، وإجهاض عملية الإصلاح، والرجوع إلى وسائل وأساليب التحكم والاستبداد والريع الحقيقي، والانتقال من إصلاح ما تم إفساده إلى إفساد ما تم إصلاحه…
اللعب بورقة عدم محاربة هذه الحكومة للريع، مردود على مدعيه، فكيف نفسر اعتماد التوظيف بالمباراة لأول مرة بالمغرب في جميع القطاعات والقضاء على الزبونية والمحسوبية؟ وما معنى التعيين في المناصب العليا يكون حسب الاستحقاق والمنافسة وليس الحزبية والموالاة؟ وماذا نسمي إصلاح نظام المقاصة وتقليص نفقاته من 56 مليار درهم سنة 2012 الى 15 مليار سنة 2016 وثمن الغازوال والبنزين أقل من 2012؟ أليس كل ذلك محاربة للريع الحقيقي. أليس إلغاء العديد من الإعفاءات الضريبية التي وُضعت لفائدة اللوبيات ولمصالحها محاربة للريع، أليس توقيف منح كريمات الطاكسيات والحافلات والمقالع في عهد الحكومة الحالية والعمل بدله بدفاتر التحملات محاربة للريع، أليست معاقبة العديد من المطاحن التي تغش في جودة الدقيق المدعم وسحب الرخص منها أهم مظاهر محاربة الريع، أليس اعفاء العديد من المسؤولين الكبار بالوزارات والمنذوبيات والسجون الذين تحوم حولهم شبهة الفساد من تجليات محاربة الريع، أليس التشطيب على الألاف من الاشباح من الوظيفة العمومية من لب محاربة الريع، أليست إحالة العديد من الملفات التي أوردها المجلس الاعلى للحسابات على القضاء جوهر محاربة الريع، أليس عزل 18 قاضيا مرتشيا وتوقيف العديد من الاطباء المتاجرين في المرضى والشواهد الطبية من أبرز أهداف محاربة الريع…
هذه الإجراءات غير كافية للقضاء على الريع، ولكنها دليل واضح على مدى أهمية ومركزية محاربة أشكال الريع بالنسبة للحكومة وللأحزاب الوطنية الجادة، وأي مواطن صالح إلا ويدافع عن مثل هذه المطالب، وهذا واجب، غير أنه يجب توجيه الأسهم إلى الاتجاه الصحيح وأن يستأنس بالأسئلة التي ذكرناها وأن يعرف أولا من وراء أي حملة، وما هي طبيعة التوقيت، وما هي الكيفية والطريقة التي سندافع بها عن المطالب، قبل أن ينخرط في تنفيذ خطط وسيناريوهات أُعدت بعناية من أجل سد قوس هذه التجربة، وقلب معادلة الإصلاح في ظل الاستقرار من “إصلاح ما تم إفساده إلى إفساد ما تم إصلاحه”.