سياسة
دفاعا عن الملكية الديموقراطية.. وليس دفاعا عن حامي الدين
عبد العزيز عثماني
في زمن الضحالة الفكرية والإعلامية وطغيان الأحكام الميّالة إلى بناء الكليشيهات والقراءات المغرضة أو المتسرعة والتبسيطية للأفكار والنظريات والمواقف، تعرض التسجيل المجتزأ للأستاذ عبد العلي حامي الدين أثناء مشاركته في فعاليات الحوار الداخلي لحزب العادلة والتنمية لحملة ظالمة ومتشنجة صرف من خلالها اخرج البعض جانبا من الأحقاد والأحكام المتحاملة، وجعلوا منها مطية لتكرار معزوفتهم المفضلة على الإطلاق في مواجهة هذا الحزب ألا وهي المحاولات البئيسة للوقيعة بين الملكية وحزب العدالة والتنمية.
– 1 –
وبعيدا عن خطاب التلاسن وتصريف الأحقاد في موضوع دقيق وحساس يمثل قوام النظام السياسي بالمغرب، فإن الموقف في حاجة إلى البيان والتدقيق وليس للقذف واللمز والوقيعة والتحامل الجبان.
ولتحرير القول في الموضوع بقدر كاف من الدقة والموضوعية يلزم الاستناد في تحليل ما قاله الأستاذ حامي الدين إلى الوثائق المرجعية للحزب، لنجد أن ما عبر عنه في ورقته (وليس في المقطع المجتزا فقط) لا يعدو أن يكون صورة عاكسة لروح التصور السياسي الذي تضمنته أهم وثائق الحزب المرجعية، وخصوصا منها المذكرة الموجهة للجنة إعداد مشروع الدستور سنة 2011 أو مضامين أطروحتَي المؤتمرين السادس والسابع للحزب.
لقد كان العنوان الأبرز والمميز لمذكرة الإصلاحات الدستورية للحزب هو إبداع مفهوم “الملكية الديمقراطية القائمة على إمارة المؤمنين”. ويكمن مصدر قوة هذه الأطروحة في جمعها بين مقومين أساسيين لنظام الحكم: الأول ينطلق من واجب صيانة المكتسبات التاريخية الذي أثبتت فعاليتها في صيانة هوية ووحدة واستقرار الدولة والمجتمع وشكلت موضوع إجماع بين المكونات المعتبرة للشعب المغربي وقواه الحية. ذلك أن النظام الملكي القائم على إمارة المؤمنين شكل “قوة توحيد وضامن للاستقرار وعنصر توازن وتحكيم بين مكونات المجتمع ومؤسساته”؛
والمقوم الثاني ينطلق من” التطلع الوازن لبناء ديمقراطي يحقق الانسجام بين هذه المقومات وبين المعايير الديمقراطية المتعارف عليها دوليا.”
وفي نفس السياق ورد بشكل واضح وصريح في نص هذه الوثيقة التي اعتبرت حينها من أجود ما قُدم من مقترحات للإصلاح الدستوري أن ” مستقبل المغرب هوية ووحدة واستقرارا هو في الديمقراطية، ومستقبل الملكية المغربية هو في الديمقراطية، وكسب هذا الرهان يمر حتما عبر الأخذ بقواعد النظام الديمقراطي بالمعايير الدولية المتعارف عليها دون تجزيء أو تقسيط، وذلك بإنتاج نموذج ديمقراطي مغربي أصيل لا يخل بالمعايير الدولية ولا يكتفي باستنساخ نماذج أخرى ويحقق الديمقراطية والشفافية والمحاسبة.”
وكما أن هذه المذكرة دافعت عن تقلد الملك لأهم الوظائف الراعية بصفته رئيسا للدولة مثل التعيين في الوظائف العسكرية بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية وتعيين القضاة وأعضاء المجلس العلمي وتوقيع المعاهدات وحق العفو الخاص… فإنها في المقابل أكدت على اقتراح التنصيص في الدستور على أن يجعل أحد أهم اختصاصات مجلس الحكومة هو “تحديد السياسة العامة للدولة وتنفيذها”.
ويجدر التذكير بأن ما دافع عنه الأخ عبد العلي حامي الدين في ورقته – دون اجتزاء –لا يختلف تقريبا عما عبر عنه الفقيد عبد الله بها رحمه الله منذ عشر سنوات بمناسبة الحوار الداخلي للحزب في ماي من سنة 2008، وهو يدافع بقوة عن الموقع الراسخ للمؤسسة الملكية بعمقها الديمقراطي وسماها حينها “بالسلطة الراعية” التي يجب أن تكون إلى جانبها السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية.
فما الذي يجعل إذن من كلام يعتبر امتدادا لنقاش سياسي ممتد في الزمن من قبل علماء المغرب وسياسييه على حد سواء منذ بداية القرن العشرين، مدعاة لتهجم أعداء الديمقراطية الحقيقيين واستهجانا من قبل المتملقين. حتى أننا وياللعجب نجد مواقف النخبة العلمية والسياسية التي حررت مشاريع الدساتير التي تم إعدادها قبل الحماية في العشرية الأولى من القرن العشرين، أكثر ديمقراطية وأوسع أفقا من قطاع عريض من نخبتنا السياسية اليوم، تبنت تقريبا قواعد الملكية البرلمانية كما هي متعارف عليها اليوم قبل أن يتعرض البلد للاستعمار وتجهض تلك المشاريع.
وعند محاولة فهم التراجع الواضح في حماسة الفاعل السياسي نحو مزيد من الإصلاح أو على الأقل التنزيل الديموقراطي لمقتضيات الدستور، نجد أن اختلالات المناخ السياسي واحتقان الوضع الاجتماعي الحاليين حيث تم تحجيم دور الفاعل الحزبي وتسجيل تراجع واضح لمنسوب الدمقرطة، قد ألقى غشاوة على البعض حتى من داخل الحزب جعلته أولا يرمي خلفه بمضامين الأطروحتين المؤطرتين لحد الآن لعمل الحزب وجعلته كذلك يستسيغ تبني قراءات بأسقف وطيئة لقاعدتَي النضال والبناء الديموقراطيَين.
– 2 –
وحتى نتمثل بوضوح حجم الإشكالات والمخاطر التي قد تنجم عن تعطيل قطار الإصلاح الديموقراطي أو إبطائه، ينتصب أمامنا مثلا حجم الكلفة السياسية والاجتماعية ثم الحقوقية بعد ذلك التي نتجت عن تعثر مشروع “الحسيمة منارة المتوسط” .
فقد كان الوضع الأقرب إلى قواعد الديموقراطية مثلا أن يكون أول المعنيين بالإقالة أو تحمل اللائمة عن تعثر هذا المشروع التنموي الهام هو رئيس الحكومة، إلا أن الواقع هو أن هذا الأخير لم يكن أصلا على علم بمضامين هذا المشروع التنموي الهام ولم يحضر مراسيم توقيعه. وبهذا الصدد، يجب على ديمقراطيتنا مثلا أن تكون قادرة على فك التعارض والتناقض بين مضمون البلاغ الذي أعلن فيه عن قرار إعفاء عدد من الوزراء من بينهم وزيرين من حزب التقدم والاشتراكية في شخص أمينه العام ووزير الصحة السابق، وبين مضمون بلاغ الحزب نفسه وهو يدافع عن وزرائه المقالين ويؤكد بأنهم أنجزوا المطلوب منهم على الوجه الأمثل !!! يبدو، إذن، أن في الأمر هنا ما يشوش على سلامة العلاقة بين المؤسسات ويعيق التنزيل الأمثل للمبدأ الدستوري الذهبي الذي ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة.
إن المسار الديموقراطي الذي يشهد انتكاسات واضحة بعد ما نتج عن مرحلة “البلوكاج الحكومي” ومخرجاته، يحتاج إلى جرعة كافية من الشجاعة السياسية والوطنية الصادقة. والشجاعة فيما نحن بصدده ليست خطابات عنترية ولا هي تجرؤ على المؤسسات بأطروحات مغامرة، بل الشجاعة هنا هي الدفاع عن المؤسسات بما يصلحها ويطورها لمصلحة الوطن وذلك بمبدئية والتزام وأن يتحمل صاحبها لقاء ذلك سهام المتملقين وكيد المنتفعين. لذلك اعتبر أرسطو في كتابه “الأخلاق إلى نيقوماخوس” أن الشجاعة فضيلة (في تناغم شبه تام مع المنظور الإسلامي في هذا الشأن) وعرّف الفضيلة بأنها توسط بين رذيلتين، إذ الشجاعة هنا توسط بين رذيلتي الجبن والتهور.
ولهذا نفهم أن أغلب الزعماء الشرفاء في التاريخ الحديث لبلادنا هم ملكيون حتى النخاع في عقيدتهم السياسية، ومع ذلك لم يمنعهم إيمانهم المبدئي بملكيتهم من الجهر بنصحهم أو اختلافهم أحيانا مع بعض قرارات أو اختيارات المؤسسة الملكية. وتتعاقب السنون والأحداث لتؤكد أن تلك الطينة من الزعماء والسياسيين هم فعلا من عملوا حقا وصدقا لأجل مصلحة البلد ومؤسسته الملكية. ولذلك، مثلا، لم يكن عبثا أن يخص جلالة الملك محمد السادس أحد أشد معارضي والده رحمه الله وهو الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بما لم يسبق أن خص به أحدا من السياسيين حين تفضل بتسمية أحد شوارع مدينة طنجة بإسمه وحضر إلى جانبه شخصيا في هذا الحدث الرمزي الذي لم يحظَ بمعشاره أي ممن وصفهم بلاغ وزيري الداخلية والمالية، ذات يوم حزين لديمقراطيتنا، بـ”خدام الدولة”.
– 3 –
إن ما تعرض له الأستاذ عبد العلي حامي الدين مقابل رأي شجاع عبر عنه مسنودا بما يعضده من المعطيات العلمية والتاريخية والواقعية، يؤكد بالفعل أن هناك طائفة متنفذة من المنتسبين للسياسة والإعلام ممن يتنفسون هواء الاستبداد وينظرون إلى الديمقراطية كوحش كاسر سيسلبهم مصالحهم غير المشروعة من وجاهة أو منصب أو امتيازات أو عقارات أو غير ذلك.
وما أثارني حقيقة من بين من تطوعوا أ واستُكتبوا للهجوم على الرجل هو رد السيد محمد الشيخ بيد الله، واحد من الرؤساء الخمسة الذين تعاقبوا في أقل من عقد من الزمن على قيادة الحزب العجيب “الأصالة والمعاصرة”. وكأني، في خلاصة للمشهد، أرى السيد بيد الله وقد انبرى للدفاع عن الملكية يجسد قول القائل “وداوني بالتي هي الداء”. فأمامنا سياسي منتفع استمد صعوده ومناصبه من ماكينة التحكم وجُمع له الناس ووُضع وضعاً في منصب أمين عام حزب سلطوي حُشر له من النواب ما جعله أول حزب بالبرلمان سنة 2008 دون أن يكون قد شارك في انتخابات 2007 !!! فطبيعي إذن أن يكون وضع السيد بيد الله أدعى إلى أن يتوسل سبيل التملق وينحو نحو “المحافظة” حفاظا على وضعه ومصالحه ووضع ومصالح من هم على شاكلته. وما أراه، والله أعلم، وهو الرجل الذي يحمل الوقار في ظاهره، إلا أنه قد استُكتب كما استكتب يوما ما المثقف الكبير ذ.حسن أوريد وروى جزءاً من ذلك في عمله المتميز “رواء مكة”.
إن حراس مصالحهم، من شاكلة السيد بيد الله، تحت ذريعة الدفاع عن الملكية يستكثرون على الناس تعبيرهم عن آرائهم، ولذلك فإن بعض المتنفذين منهم لا يتعبون مثلا من “بعث” طالب من قبره قضى رحمه الله في أحداث مأساوية قبل ربع قرن بجامعة فاس، وذلك كلما أدلى الأستاذ حامي الدين برأي لا يروقهم سواء كأستاذ جامعي متخصص أو كمناضل سياسي ملتزم.
أما آن للمسترزقين والمستأجَرين والحالمين بالوقيعة بين الملكية وحزب العدالة والتنمية أن ييأسوا من اتباع السراب الذي هم متبعون.
إن هذا الحزب بحمائمه وصقوره وأسوده وحملانه – وكل ما يحلو لهم من أوصاف- لن يكونوا اليوم أو في كل مرة في حاجة إلى تأكيد ولائهم للملكية. ومع ذلك، وعلى نهج الوطنيين الصادقين من أبناء هذا الوطن فإن ذلك لن يمنع مناضليه من القيام بكل مسؤولية وشجاعة بواجب النصح في اتجاه مزيد من الدمقرطة لنظامنا السياسي وفي القلب منه مؤسستنا الملكية.