سياسة

طنجة أسطورة عبر التاريخ

محمد العاقل

طنجة المدينة المجنونة التي خاطبها القديس ” فرنسيس الأستريFrançois D’assise ” منذ سنة 1208م بهذه العبارة ” طنجة أيتها المجنونة يا مدينة الخطيئة”، فلقد شكلت المدينة حلقة وصل بين قارتين لأزمنة مديدة ،ولا زالت كذلك. غير أن الكثير من الغموض يكتنفها كمدينة عايشت لفترات طويلة أحداث جسام، وشهدت إختلالات في موازين القوى. ورغم كل هذا فإن الغموض لا زال يخيم على تاريخها، ولعل أهم نقطة غامضة في تاريخ مدينة طنجة تعود بالأساس إلى تسميتها. فهذا اللفظ الذي لا نجد نظيرا له في بقاع العالم، ولا شبيهه في قرى أو مدن أخرى كما هو حال بعض المدن و المداشر المغربية. وقد قيل الكثير، ولا زال يقال حول أصل هذه التسمية و مدلولها الرمزي وما يكتنفه من حمولة تاريخية.

لقد سبق و إقترحت أصول لهذه التسمية بناء على ما ورد في الكثير من النصوص القديمة،  وأقدمها نص يعود للقرن السادس قبل الميلاد  للجغرافي اليوناني هيكاتي الميليتي، غير أن ما تم تداوله من الأساطير في بعض الأحيان، بني على إجتهادات لغوية ” لكن المنهج الأثري اللغوي متى كان أشمل وأوسع كان أقدر على أن يقترح معنى جديد قد يكون أكثر وجاهة وإقناعا مما هو مقترح لحد الآن”(1) إن هذا الكلام في حد ذاته يفرض صعوبة كبرى على الممتهن مهنة البحث التاريخي، إذ يلزمهم بالكثير من التنقيب والبحث داخل أمهات المصادر المغربية، وكذا الأجنبية، بحثا عن إشارات أو دلالات واضحة أو مخفية للوصول إلى منطق سليم، يمكن أن يشكل جانب منيرا  لعتمة الموضوع. ولعل كثرة التعقيد وندرة المصادر جعلت الأستاذ محمد بولعيش، يتبنة تعليق أبرهام لاريدو  بقوله” سوف تذهب محاولتنا سدى إذا اجتهدنا في البحث عن أصل مدينة طنجة وعن تحديد تاريخ تأسيسها. لأن هذا التنقيب يتحدى حدود إطار التاريخ. إذا فعلنا ذلك فسوف نتيه في متاهات تجرنا إلى ميثولوجيا شعوب العصور الغابرة. فالأساطير التي أكل عليها الدهر وشرب في أيام الفينيقيين والرومان، هي التي تنقذنا من عناء التقصي عن نشأة مدينة طنجة”(2).

لقد شكلت إستوغرافيا حوض البحر الأبيض المتوسط عموما والمغرب خصوصا، غنية من حيث كثرة الأساطير، والرموز الخرافية التي تحاول تكريس الأسطورة المؤسسة، والتي غالبا ما تكلل تلك الهوية التاريخية، وتستمد منها الطابع الحضاري للأمم. وفي هذا الصدد فإن ما ورد عن حضارة طنجة في الأدبيات العربية  الإغريقية واللاتينية، كفيل بجعلها أسطورة تحاك بقالب بطولي، و في نفس الوقت في قالب ديني توثقه الكتب السماوية، فبعض هذه النصوص ربطت تأسيسها بقصة الطوفان(3) وهنا نستحضر قصة الطوفان التي تناولتها الكتب المقدسة، وملخص هذه القصة أن نبي الله نوح عليه السلام لما ركب السفينة، وحمل بها من كل حيوان موجود زوج، كان من بين ما حمله الحمام، هذا الأخير الذي طار في يوم، وعاد بأثر طين في رجله، فإستبشر ركابها وقالوا ” طين جاء” فسمي المحل الذي وقع به ما ذكر “طنجة” بعد الحذف وتسهيل الكلمة بالمداولة.(3) فهذه الميتولوجية تحمل في طياتها الكثير من التناقضات ناهيك عن بعدها التاريخي، دون الرجوع إلى النصوص الدينية لتحديد القصة كاملة، وتبيان مكان رسو السفينة، رغم أنها تتعزز بأسماء أماكن و أشخاص كنوح صاحب السفينة، وموسى صاحب الخضر، أو ذي القرنين صاحب السد وماجوج ، لن نخوض في تفاصيلها بقدر ما سنركز على جانب واحد ينسف هذه القصة، ويبين أنها إختلقت لهدف إيديولوجي فرضته مرحلة معينة، يعلق الأستاذ أحمد التوفيق على هذا النص بقوله ” من الواضح أن هذا التأويل يفترض أن نوحا عليه السلام تكلم عربية لم تكن فيها عبارة (الطين جاء) بمثل الركاكة التي قد نحس بها اليوم”(5) فبالفعل هل يعقل أن يتكلم نبي مرسل بهذه الركاكة هذا من جهة، ومن جهة ثانية هل فعلا نبي الله نوح تكلم العربية ؟؟ وهل هو تكلم العربية التي كان قومه يتكلم بها ؟؟ أم أنه إبتكر لغةجديدة ؟؟ فهذه من بين الأسئلة التي تقف حاجزا أمامنا اليوم، وتجعلنا نرفض هذه الرواية بدليل أن اللغة العربية التي نتكلم بها اليوم لا يوجد في قاموسها “الطين جاء”.وتأتي أسطورة أخرى مرتبطة بقصة الطوفان تتمثل بالأساس في ما أورده “أبو القاسم الزياني” في “الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا” أن أول من عمر سواحل المغرب البحرية قبل دخول البربر، أولاد يافث بن نوح عليه السلام لما نزلوا الأندلس” وأول من نزلها وعمرها – الأندلس- أولاد أندلسن بن يافث بن نوح عليه السلام، وقيل أولاد طوبال بن يافث عليه السلام، وهم الإصبهانيون اللذين يعرفون بالإسبانيين، وعدة ملوكهم مائة وخمسون ملكا، وكثر نسلهم بها ثم لحقهم بها أجناس الروم، وكانوا يحاربونهم إلى أن ألجئوهم لبر العدوة، حيث الزقاق اليوم، وقبل أن يحفر، واستقر بنوا يافث به وأسس سبت سبتة، وطنج طنجة، وأبلوش بلشة، وجعلوها معاقلا لحراسة من يأتيهم من بر العدوة من البربر، واقاموا على ذلك دهورا إلى أن عمرت هذه الأندلس وغصت بأجناس الروم والفرنج”(6) فهذه أسطورة ثانية تقترن بقصة الطوفان، وهي تنفي تماما القصة الأولى. إذ لو كان رسو سفينة نوح على جبل طنجة لما كان أحفاده سيؤسسون المدينة لاحقا، وقد علق السكيرج على هذه الرواية ونفى صحتها إستنادا إلى ما ورد في التوراة وعند بعض المؤرخين كالمسعودي قائلا: والذي يؤكد أنه لا صحة لنقل الزياني، وإن ذكر بعضه صاحب النفح، وهو ما نقلوه عن التوراة القديمة وأثبته الجهابذة كالإمام المسعودي في غالب كتبه وغيره، مما يفيد أن أولاد يافث لم يأتوا لمغرب في ذلك العهد أصلا.(7) فهذه روايات متعارضة مع بعضها لم تتفق على أصل واحد فكيف لنا أن نسلم بصحتها، ناهيك عن معارضتها الصريحة للنصوص الدينة، فضلا عن ما وصلت إليه الأبحاث الأركيولوجية. وفي سياق الكتب الدينية ترتبط طنجة بأسطورة أخرى يوردها إبن خردادبة، والهمذاني مفادها أن طنجة كانت تعرف بهذا الإسم زمن نبي الله داود، حيث كانت دار البرابرة فلسطين وملكهم جالوت، فلما فقتله سيدنا داود عليه السلام إنتقل البرابرة إلى الغرب الأدنى، ثم إنتشروا إلى السوس الأدنى خلف طنجة.(8)

كل هذه الروايات، وثقت لملحمة التأسيس وأضفت عليها طابع القدسية، من خلال إستثمارها لمعطيات وردت في الكتب المقدسة موظفة بعضها لترسم لنا خليط متجانس يربط بين إستقرار “البربر” في المدينة، وبين تأسيسها الشرقي في محاولة لربط الشرق بالغرب، وتبرير تواجد العنصر الشرقي في الغرب. وهذه الحالة ليست فريدة من نوعها بقدر ما هي متعارف عليها في تاريخ المغرب خصوصا الحديث منه، فلقد ظلت الأبحاث المنجزة في المغرب إبان فترة الحماية حبيسة التواجد الرماني في المغرب خصوصا في وليلي، مع العلم أن أقرب فترة تاريخية لحاضرنا اليوم هي التواجد الإسلامي بالبلاد، والذي لازال مستمرا. فقدتم تغيب معالم الحضارة الإسلامية في العديد من المواقع الأثرية بالمغرب، إن لم نقل إتلافها بغية تأكيد أن الإستعمار الفرنسي أو الإسباني هو في حقيقة الأمر إمتداد لمسيرة الأجداد، مما أكسب المستعمر شرعية تاريخية لإحتلال البلاد والعباد، بدعوى أن أجدادهم سبقوا إلى هذه البقعة. وهذا نوع من أنواع الإديلوجية الإستعمترية التي وظفتها الإمبريالية الأوروبية لتوسيع نفوذها، وتكسب المزيد من الأسواق، إما لتصريف البضائع، أو لجلب المواد الأولية. لن نتشعب كثيرا في هذا الأمر بقدر ما سنحاول الدخول في غمار هذه الإيديولوجية الأوربية لنرى ما الذي قدموه كدليل على أن طنجة تنتمي إلى العام الشمالي، وأنها إمتداد لحضارة أوروبا المندثرة.

فالميثولوجية  الإغريقية واللاتينية غنية ومتنوعة، وقد أورد أبرهام لاريدو، مختصر ما ورد عن حضارة طنجة في بحث صدر سنة 1969 تحت عنوان “طنجة من الأسطورة إلى التاريخ”(9) لن نغوص كثيرا في تفاصيل هذه الأساطير، بقدر ما سنلخصها بعجالة فقد ذكر بومبنيوس ميلا في القرن الأول الميلادي أن طنج tingi  مدينة قديمة بناها أنطي antée. وفي رواية أخرى أن طنجة إسم أرملة أنطي الذي لقي مصرعه بعد الطوفان على يد هرقل hercule، وأن بانيها هو سوفاكس sophax كتذكار لأمه(10) غير أن أول نص تكلم عن طنجة يعود للقرن السادس قبل الميلاد،كما سبق وأشرنا لذلك، في حين أن النصوص التي تحكي هذه الأساطير متشابهة جدا، لكنها متعددة الرسم والصيغ، من تنكا tinga   وتتكا titga وتنكي وتنكس Tingis   وتنديا tantdia  …. ولعل أهم ما يمكن الإهتداء به هما صيغتان واردتان في النقود الفينيقية، و الذين وصلوا إلى طنجة قبل أن يعرفها الإغريق و اللاتينيين، حيث نجد صيغتين هما تنكا tinga  و تتكا titga.ا(11)  وقد أورد الأستاذ محمد بولعيش في كتابه “طنجة عبر التاريخ” هذه الميثولوجية إستنادا إلى بحث لاريدو(12). وفي هذا الصدد نستحضر ما كتبه victor verier  ” حوالي 1450 قبل الميلاد رسا بها الفينقيون منجذبين بمعادن منطقة قادس cadix وأسسوا فيها مرفأ تجاريا. لم تكن طنجة آنذاك سوى ضيعة بربرية محاطة ب tings، معنى المستنقعات التي منحت إسمها للمدينة، والتي أصبحت بالفعل تحريف الغزاة طنجيس tingis  وبعدها طنجة tandja” ا(13) والكاتب نفسه يسوق مجموعة من الأساطير التي يقال بأنها أسست طنجة، من قبيل الصراع بين أنطي وهرقل بعد الطواف، وهي نفس الأساطير التي نجدها في جميع المؤلفات التي تكلمت عن المدينة بطابع أسطوري. ونرجح بأن كل هذه الدراسات نقلت عن المصدر نفسه مما جعل الأساطير تثبت في جميع الكتب، بل وحتى في أغلب الدراسات دون نقدها أو تمحيصها، وهذا باب آخر لن نغوص فيه. وقد علق الأستاذ مبروك الشتوكي على هذه الأساطير، مؤكدا أنها تعبر عن تقلبات الطبيعة والتاريخ، وأنها ترتكز على نسبة ضئيلة من الحقيقة عن أحداث أكثرة دقة، وأن الميلاد الحقيقي لطنجة كان بعد الثورة الجيولوجية، والتي هي الأصل في تكوين مضيق جبل طارق(14).

فالمعرفة باللغة الفينيقية جد محدودة، والذين أرادو البحث عن أوجه إلتقاء بين إسم تنكا tinga، الذي ورد منفصلا في النقود الفينيقية على نحو tin ga، أو tit ga ، فاللغة العربية هي أقرب القواميس لهذا المصطلح، لا سيما أن الكلمة لازالت إلى اليوم ترسم وتنطق  طنجة، وأن أقدم النصوص الإسلامية ذكرتها كما هي رسما ونطقا. غير أن مادة “ط ن ج” قليلة فإبن منظور يذكر الطنوج بمعنى الأسفار، وفعل طنج بتشديد نونه، وهو من الغريب، بمعنى تفنن في الكلام. فحرف التاء الذي في أخر الكلمة في رسمها العربي هاء سكت أو تاء تأنيث اقتضتها صياغة التعريب، وحرف الطاء في الأول بدل التاء ربما جاء تفخيما إقتضاه الحرف الذي بعده وهو النون، وحرف الجيم هو نفس حرف ك ( الجيم البدوية كما يقال) فيكون رسم طنجة هو رسم الإسم الوارد عند الفينقيين، وعند من نقل عنهم من اللاتينيين(15). وفي الطرح  يقال بأنها سمية في المرة الأولى “طبجة” بالباء الموحدة ، وإنما غير إسمها بعض المتقدمين، وأبدل الباء بالنون، فرار من أن تدعى الحمقاء، كما غير الكثير من الناس أسماء بلدانهم مما هو معروف في التاريخ… وذلك أن طبجة بالباء الموحدة، مأخوذة من الطبج بسكون الباء، وهو شدة الحمق واستحكامه كما هو في كتب اللغة. ويضيف أصحاب هذا الطرح أن معنى إسم طنجة… طبج، يطبج، طبجا، وهو أطبج، وهي طبجية، ويجوز مع هذا أن تكون مشتقة من الطبجية وهي الإست كما في اللغة، لأنها لأفريقيا كالإست من الحيوان، إذ هي آخره على الإطلاق… فكأن واضع إسمها الأول لاحظ في إشتقاقها معنى الإست لما رآها آخر بلد في مغرب إفريقيا.(16) وقد أثبت محمد سكيرج اعتمادا على المنهج النحوي أن لفظة “طنجة” لا يصح تركيبها عربي.(17) فمن خلال هذا العرض المختصر جدا، نتوقف على سؤال مهم من أين حصلت المدينة على هذا الإسم؟؟؟ خصوصا وأننا نعلم أن للبلاد لغة محلية ضاربة في التاريخ، رغم تنوعها وإختلافاتها البسيطة على شكل لهجات اليوم، إلا أنها تبقى لغة لها إستمرارية منذ آلاف السنين في شمال إفريقا عموما والمغرب خصوصا. إن المحاولات اللاتينية  لشرح معنى اسم طنجة بربطه بالنسق الأسطوري وبأعلامه، ووقائعه كما حاكها الإغريق ثم الرومان محاولة مصادرة أجنيبة، وعدم التفات إلى الجذور الأصلية المحلية، وتتضمن أيضا جهلا بالآثار الفينيقيين أو تجاهلا لها. وكذلك فعل من أراد أن يجد للإسم تأويلا عربيا في عبارة الطين جاء المرتبطة بالطوفان”(18) فالأسم إذن أصلي محلي من لغة أهل البلد، وجده الفنيقيون فكتبوه كما هو، أو كتبوه بشيئ قليل من الترحيف ليتماشى مع التفنيق، ثم جاء العرب فكتبوه بشيء من التصحيف ليتماشى مع التعريب، ولا يمكن أنه إسم فينيقي مستورد(19) وفي هذا الجانب نشيد بالمقاربات اللغوية التي قام بها الأستاذ أحمد التوفيق بغية الوصول إلى التأصيل اللغوي للكلمة، ومن أين إتخذت هذا الإسم. فقد قام بمجموعة من المقارنات من أبرزها مقارنة إسم طنجة بوليلي كما ورد في وصف البكري،  ليخلص في نهاية بحثه إلى أن الإسم محلي. فبالإعتماد على الرسم الفينيقي للكلمة tingi والذي يحمل في طياته كلمتين هما tin  و gi ، وفي ضوء الصيغة المذكورة tingi بإعتبارهما كلمة واحدة، ذهب التفكير في المعنى المباشر لهذا اللفظ وهو بالعربية السيل” سيل مياه الوادي”، ومن ثمة ربطوه بشعب ذي سيلان عند قدم المرتفع الذي فيه موقع طنجة، أو ربطوه توا بقصة الطوفان (20) وفي هذا السياق يضيف “يمكن أن نذكر أن أقرب الكلمات الأمازيغية من لغة اليوم إلى إسم طنجة هو كلمة تاضنكة ومعناها الموجة الكبيرة العالية، ولو رجحنا هذا الإسم لما أعوزتنا القرائن سواء من جهة وقوع طنجة على مضيق بحري شديد الهيجان، أو من جهة موقعها المشرف الذي يكاد في شكله يشبه موجة من أمواج هذا البحر المتلاطم أو طرفا من اليابس يعاند باعتداده أمواجه البحر التي ترتطم عند أقدامه”.(21)

وليس من المستبعد أن يكون أصل الإسم تنك بفتح أوله، في هذه الحالة فإن “تن” تفيد آداة الإشارة، كما قد يفترض ان تكون “تن” مركبة هي أيضا من “ت” التي تفيد التأنيث أو الإشارة، ومن “ن” التي تفيد الإضافة أو الوصف، ولا يبتعد المعنى عما قلناه في دلالته “تن”، ولكن الذي يظل أساسيا وثابتا هو أن “ك” بالكسر أو الفتح تفيد العلو والإرتفاع في جميه الأحوال، فهي التي في كلمة أكادير “أكدر” بمعنى الحصن أو الجدار المرتفع، بمعنى: الرأس، وفي “أكيور” بمعنى النسر الذي يطير عاليا، وفي “أطنوان” بمعنى السماء، إلخ. إنه لمن المعروف أن أسماء الأماكن تدل في معظم الأحيان على معان تتصل بالشكل الطبوغرافي للموقع، ولا تخفي اهمية التحصين وصفة المنعة التي يوفرها العلو بالنسبة لعمارة على ممر الطرق برية مختلفة لها معنى الموقع المرتفع أو الحصن العالي،(22) فكل هذه القرائن وهذا التشابه بين الأسماء يوحي لنا بضرورة العودة للغة المحلية كمصدر شفوي موروث، رغم ما دخل عليها من تغيرات، فكل هذه الإشارات توحي بوجود حضارات، ومدن  قائمة وذات سيادة لا يمكن تجالها أو نسفها.

غير أن قول البكري إن أخضعناه للغة المحلية لفهمنا وصفه حينما قال أن طنجة تعرف بالبربرية وليلي، يعني أن طنجة تعني ما تعنيه وليلي، أي المرتفع والمكان العالي، فطنجة إذن هي العالية. إن هذا الوصف في حق طنجة حقيقة طبوغرافية، كما أنه وصف لها وارد في التغني الشعبي الحديث، والذي قد يكون التقط دلالة عبرت آفاق القرون أو يكون جددها على حسن إتفاق مع ما أشفقت من درسه عوائد الزمن،(23) هذا المعنى الذي لا زال يقاوم ويناضل ليفرض نفسه على لسان العامة والخاصة، فلازلنا نسمع وصف طنجة العالية، ولازالت بعض المقطوعات تتغنى بهذا الوصف، والذي لربما يكون بالفعل هو أصل تسميتها. فمن المعروف أن أسماء الأماكن تتصل بالشكل الطبوغرافي للموقع، كما هو حال الكثير من المدن التي تتواجد على طول الساحل الشمالي للقارة الإفريقية.

وخير ما أختم به ما قاله الأستاذ أحمد التوفيق في خاتمة بحثه ” إن هذا النوع من التنقيب الأركيولجي، إن كان محفوفا بالمخاطر، يثري بالتراكم الذي يتيح المقارنة والتشوق إلى ما هو أبعد، وذلك ما بيناه إستنادا إلى أبحاث سابقة ربما أوحت بنتائج مماثلة ابتداء من منطلقات أخرى. ومع ذلك فلا يجوز باسم صرامة الملاحم المرتبطة بأسماء المدن ومصايرها سيما إذا كان مثل ما في حال طنجة صنيعة عمالقة وتحلية أميرات ونطق الأنبياء وشهادة ميلاد الأرض بعد أن غمرها الطوفان. ومع ذلك فكل جزم في هذا المجال هو من قبيل الجرأة الفائقة حتى إن المرء عندما  ينتهي من الكلام فيه يود لوكان شيء من بيان أو كستينوس ليقول في مثل هذا المقام: أنني لم أسع من كل هذا إلى الإقناع وإنما أردت به شيئا من إمتاع الأسماع. هذا الكلام يحمل في طياته الكثير من المعاني التي تؤكد على صعوبة البحث والنبش في تاريخ الذهنيات والقوميات العامة للشعوب فكانت هذه الورقة مجرد تعريف بسيط لما يروج حول المدينة ولا يمثل كل ما قيل حولها.

1  التوفيق أحمد. “حول معنى إسم طنجة”. طنجة في التاريخ المعاصر 1800-1956. الرباط .1991. ص 33 .

2  محمد بولعيش. طنجة عبر التاريخ. مطبعة فضالة. طنجة. 1995.ص 51.

3  .م.س. ص. 33.

4  محمد السكيرج. رياض البهجة في أخبار طنجة. دراسة وتحقيق نجية الترحي. رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ. كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط 1997. ص 159.

5  أحمد التوفيق. م.س. 34.

6  أبو القاسم الزياني. الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا. حققه وعلق عليه عبد الكريم الفلالي. دار النشر المعرفة. الرباط .1991.ص 91.

7  محمد السكيرج. م.س..ص 159.

8  حول هذه الرواية أنظر كتاب: المسالك والممالك. لإبن خردادبة. طبع بمدينة ليدن سنة 1989.  صص 91-92. و كتاب البلدان لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني المعروف بابن الفقيه. طبع بليدن سنة 1985. نقلا عن محمد سكيرج. م.س. ص. 160.

9  أنظر:  Abraham Larédo , Tanger de la légende à l’histoire ,actes du colloque. Hommage à abraham larédo. Tanger, 1969

10 محمد السكيرج. م.س..ص 160.

11  أحمد التوفيق. م.س.ص.34.

12   حول المزيد من التفاصيل أنظر: طنجة عبر التاريخ. م.س. صص.51-56.

13  فيكتور فيرني، منطقة طنجة الفريدة مظاهرها المختلفة وما يمكنها أن تصبح لو .. . ترجمة عثمان بن شقرو. منشورات مرايا.الطبعة الأولى. طنجة. 2008. ص.46.

[xiv]  Shtouky mebrouk, Tanger : Mytes des Origines ,Tribune Juive , mars, 1994 p 50 نقلا هن محمد السكيرج. م.س.ص 161

15  أحمد التوفيق. م.س.ص. 35.

16  محمد السكيرج. م.س. صص. 23-24.

17  محمد السكيرج. م.س..ص. 23.

18 أحمد التوفيق. م.س. ص. 35.

19  أحمد التوفيق. م.س.ص. 34.

20 أحمد التوفيق. م.س.صص. 35-36.

21  أحمد التوفيق. م.س.ص. 36.

22  أحمد التوفيق. م.س.ص. .37

23  أحمد التوفيق. م.س.ص. 40.

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق