د. محمد عزيز الطويل – باحث في التاريخ والتراث
تظل طنجة تلك المدينة الغامضة بتاريخها العريق، وبأحداثها التي لا تكاد تنتهي، وبقصصها التي تجمع بين الواقع والخيال. ومن أبرز خبايا تاريخ طنجة مع بداية القرن العشرين، قصة بناء محجر صحي بمنطقة مالاباطا عند المدخل الشرقي للمدينة على الشاطئ. ففي منطقة سياحية بامتياز شرق طنجة، وتحديدًا بمنطقة الغندوري، يصادف العديد من سكان طنجة وزوارها برجًا وحيدًا يختزل تاريخًا طويلًا من التدخلات الإمبريالية في المغرب تحت مبرر رعاية الشؤون الصحية.
وقد عرف هذا البرج عند سكان طنجة بـ”عازاريطو”، وهو تحريف للكلمة الإسبانية (Lazareto) التي تعني المحجر الصحي، كما تعني الجزيرة المنعزلة التي تُستغل لأغراض الحجر الصحي ومحاصرة تفشي الأوبئة. ومع نمو الإمبريالية الأوروبية وتزايد نشاطها التجاري والملاحي في حوض البحر المتوسط، وارتفاع عدد الأوروبيين بطنجة مع بداية القرن التاسع عشر، بعدما تحولت إلى عاصمة دبلوماسية للمغرب، أدى ذلك إلى تكتل الأجانب في إطار يجمعهم أطلقوا عليه مجلس القناصل أو خونطة القناصل. كان هذا التنظيم مستقلًا عن المخزن المغربي، والغرض منه توحيد مطالب الهيئات الدبلوماسية واتخاذ قرارات لتسهيل إقامتهم بطنجة. وقد شبّه علي باي العباسي مجلس القناصل “بأنه نوع من الجمهورية التي تعيش منعزلة تمامًا عن المسلمين”.
وكان علي باي مصيبًا في تشبيهه، حيث تطورت الخونطة إلى المجلس الصحي الدولي بعد تزايد المخاطر الصحية والخوف من انتقال الأوبئة عبر السفن التجارية إلى المغرب. وقد دفع ذلك المجلس إلى اتخاذ عدة إجراءات لفرض الحجر الصحي، بل إن الأمر وصل حد التدخل لدى السلاطين المغاربة لمنع حج المغاربة. كما دفع المجلس إلى تأسيس لجنة الصحة والطرق البلدية بمدينة طنجة أواخر القرن التاسع عشر، والتي ستعد من أبرز آليات الاختراق الاستعماري عبر التحكم في الأشغال البلدية، حيث اعتُبرت النواة الأولى لتدويل مدينة طنجة.
وبفعل نمو مصالح الأجانب في طنجة، خاصة مع تكاثر أعدادهم وتطور الملاحة البحرية التي ساهمت في سرعة نقل الحجاج وإعادتهم من وإلى المغرب، ظهرت مطالب الهيئات الدبلوماسية بطنجة بضرورة إنشاء محجر صحي بهضبة مالاباطا لاستقبال مختلف الوافدين على المدينة عبر البحر، وتفعيل المراقبة الصحية، وتجميع الحجاج المغاربة لاجتياز الحجر الصحي بدل إرسالهم نحو جزيرة الصويرة كما جرت العادة، وهو ما كان يكلّف إجراءات وتكاليف وأعباء مادية إضافية على الحجاج المغاربة.
ويرجع اقتراح منطقة مالاباطا كموقع للمحجر الصحي إلى سنة 1902، على يد الطبيب الفرنسي Raynaud. وقد استند المجلس الصحي الدولي إلى هذا المقترح ليتدخل لدى السلطان المغربي المولى عبد العزيز، الذي وافق على طلب المجلس بشرط إجراء مختلف الدراسات التقنية للمشروع تفاديًا لتضييع النفقات.
انطلاقًا من هذا القرار، أسست الهيئة الدبلوماسية بطنجة لجنة دولية ضمت مندوبي فرنسا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا لدراسة المشروع. وقد توجه أعضاء اللجنة إلى موقع إنشاء المحجر، ورغم مصادقة اللجنة على الموقع، فإنها أبدت تحفظًا بخصوص صعوبة الاتصال عن طريق البحر، خاصة عند هبوب رياح الشرقي، لذا أوصت ببناء أرصفة للتغلب على هذا العائق.
وافقت اللجنة على التصميم العام للمحجر الصحي الجديد، والذي تضمن عدة مرافق:
مراكز عند رصيف استقبال السفن، لتسجيل الحجاج واستقبالهم.
غرف كافية مخصصة لاستحمام الحجاج.
فندق لإيواء الحجاج طيلة فترة الحجر الصحي، مقسم إلى أروقة كافية لاستقبال 200 حاج، مع تخصيص فندق أصغر للنساء.
جناح خاص للتطهير من الأوبئة.
مستوصفان، أحدهما للأمراض العادية والآخر للأمراض المعدية.
غرف لإقامة الطبيب المشرف والممرضين.
مستودع لاستقبال الجثث.
أسوار وحواجز شائكة حول المحجر لمنع التسلل إليه.
يتضح من ذلك أن مشروع المحجر الصحي كان مشروعًا متكاملًا، كما وضعت اللجنة برنامجًا لإدارته. غير أن الدراسات التي أنجزتها اللجنة لم تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب التكلفة المالية الباهظة، التي بلغت آنذاك 100,000 ريال، إلى جانب الاعتراضات التي مارستها السفارة الإيطالية بتحريض من فرنسا، التي كانت تتأهب لوضع حمايتها على المغرب وتوسيع إمبراطوريتها الاستعمارية في شمال إفريقيا، وهو ما يفسره توقيع فرنسا مع إيطاليا الاتفاق الودي سنة 1902 حول مناطق النفوذ الاستعماري.
عادت مسألة إنشاء الحجر الصحي بمالاباطا من جديد سنة 1908 بعدما تدخلت بريطانيا، التي عارضت المقترح الفرنسي بتوجيه السفن الواردة إلى المغرب نحو الموانئ الأوروبية أو الجزائرية، وأوصت ببناء محطة صغيرة في مكان بعيد عن المدينة بشرط تزويدها بجهاز التطهير، مستغلةً قرار المؤتمر الصحي الدولي لسنة 1903 الذي أوصى بنقل جهاز التطهير الموجود بجزيرة الصويرة.
وقد حظي الاقتراح البريطاني بالموافقة، ليُشرع أخيرًا في بناء المحجر الصحي. غير أن المثير في الأمر أن هذا المحجر لم يُستعمل على الإطلاق، ليظل مهجورًا فترة طويلة، قبل أن يتم استغلاله كمركز للشرطة مع الربع الأول من القرن العشرين، ثم ليصبح لاحقًا السجن المحلي بطنجة.