هدى المساوي
في منتصف نيسان، حين يبدأ البحر بتهدئة موجه الشتوي، وحين يُخيَّل للمُهاجر أن الطريق أصبح أكثر رحمة، ارتدى مروان المقدم حُلُمَه وركب البحر. لم يكن مهرّباً، ولا هارباً ولا من أولئك الذين يتسللون في ظلمة الليل عبر قوارب الموت.
كان شاباً قانونياً، بتأشيرة نظامية، يحمل جواز سفره في جيبه، ويحمل قلبه في كفّ يده، ويصوّر رحلته الأخيرة بهاتفه كي يُطَمئن أمّه :
“أنا بخير، لا تقلقي يا أمي… دقائق وأكون هناك.”
في 20 أبريل 2024، غادر ميناء بني أنصار بالناظور، متجهاً إلى موتريل الإسبانية، على متن باخرة “أرماس” الإسبانية.
وفي تلك الرحلة البحرية التي لم تكن موحشة كما في القصص، اختفى مروان.
لا، لم تسجّله قوائم الموتى، ولم تُبلغ الشركة عن حالة سقوط أو طارئ.
كان كل شيء… طبيعياً، رتيباً، كما لو أن البحر اجتاز الرحلة نائماً.
لكن مروان… لم يظهر.
كانت الأم تنتظر في الجهة الأخرى من الهاتف
عندما صمت الهاتف فجأة، ظنت الأم أن الشبكة ضعيفة.
عندما مرّت الساعات، بدأت تهمس لنفسها بآيات من القرآن.
عندما حلّ اليوم التالي، ولم يتصل، خافت أن يكون نائماً في مكان ما.
لكن حين مرّ الأسبوع، ثم الشهر، ثم الأشهر الستة…
تحول الخوف إلى فزع، وتحول الفزع إلى وجعٍ لا يُسمّى، لا يُشفى، لا يُقال.
كل يوم، كان أخوه محمد المقدم يكتب منشوراً صغيراً في الفيسبوك:
“من رآه؟ من سمع عنه؟ من يُخبرنا بأي شيء؟”
كل رسالة كانت بمثابة صرخة في غرفة فارغة.
لا السلطات الإسبانية ردّت، ولا الشركة التي حملته أجابت، ولا حتى البحر أخرج سره.
مروان… الوجه الذي لا تريد ذاكرة العائلة أن تمحوه
كان مروان يكتب في مذكراته — كما أخبر محمد لاحقاً— “أنا لا أريد الكثير، فقط بداية جديدة في مكانٍ يُقدّرني.”
لم يكن يهرب من حرب، ولا من جوع، بل من ضيقٍ لا يُرى.
كان شاباً بعمر الياسمين، يريد أن يشتري وقتاً جديداً لحياته، أن يتنفس.
وفي لحظة، كأن أحدهم قرر أن ينهي الفيلم قبل أن يُعرض.
التحقيقات المغربية أكدت أنه غادر المغرب بشكل قانوني، واستعمل تأشيرته كما ينبغي، وسُجّل خروجه في نظام شرطة الحدود.
أي أن مروان لم يُختفَ في البحر… بل بعده.
فأين ذهب؟
هل نزل من السفينة ومشى في ميناء موتريل دون أن يلتقطه أحد؟
هل تاه في المدينة؟
هل خُطف؟
هل تم التلاعب بمسار نزوله؟
هل هو ضحية خطأ أم ضحية خطة؟
الإنتربول يدخل على الخط… ولكن متأخراً
لم تكن العائلة تنتظر معجزة، بل مجرد احترام، فقط أن تُعامل كأُسرة لمواطن مفقود.
لكن حين لم تستجب إسبانيا، وحين تجاهلت الشركة الرسائل، اضطرت الأسرة لتفعيل المسار الدولي.
وطلبت رسمياً من الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) إصدار “النشرة الصفراء” بحق مروان، ليُصنف كمفقود دولياً.
بعد ستة أشهر من الألم والرجاء، وافق الإنتربول أخيراً على فتح تحقيق رسمي.
في برقية رسمية، أكدت الشرطة الدولية أن مروان قد غادر فعلًا على متن باخرة أرماس يوم 20 أبريل، ووصلت السفينة إلى ميناء موتريل في 21 أبريل.
لكن ذلك لم يقدّم إجابة واحدة، لماذا لم يُسجل خروجه من الميناء الإسباني؟
أين كان آخر مكان شوهد فيه؟
لماذا لم تظهر صورته في الكاميرات؟
هل من شاهدٍ صمت؟ هل من طاقمٍ تجاهل؟ هل من أحد يعرف ولم يتكلم؟
حين يصبح الصمت جريمة
المأساة هنا ليست فقط في اختفاء مروان، بل في ذلك الفراغ القانوني، الإنساني، والأخلاقي، الذي إبتلع قضيته.
شاب يختفي في مسار واضح، في ظروف قانونية، دون أثر، دون جواب، دون مساءلة.
ما معنى أن تكون الرحلة “رسمية” إذا لم تحمِك من الغياب؟
ما معنى أن تكون التأشيرة “صحيحة” إذا لم تمنع موتاً بلا شاهد؟
هل نحن أمام شبكة إختطاف ؟
هل هناك من يعرف الحقيقة ويخفيها؟
هل هو مجرد “ضحية مثالية” لعصابات الإتجار بالبشر؟
هل جُرِّد من هويته، واحتجز ؟
أم أن الحقيقة أسوأ مما يمكن أن يتخيله عقل أمّ تنتظر على حافة الهاتف؟
أمام السفارات… وأمام البحر
اليوم، بعد مرور سنة وأشهور، لا زالت عائلة مروان المقدم تنتظر.
ما تزال أمه تصحو كل فجر، تتفقد الهاتف، وتُحدّث صورته على الحائط.
وما يزال أخوه يكتب رسائل مفتوحة، يرسلها للفضاء العام، عسى أن يرد أحد.
والسؤال لم يعد: أين مروان؟
بل: لماذا لا أحد يبحث عنه بصدق؟
ختامًا: إلى مروان… من الضفة الأخرى
يا مروان،
إن كنت على قيد الحياة، فاعلم أن أحداً لم ينَم منذ غيابك.
وإن كنت غائباً عن هذا العالم، فاعلم أن اسمك صار نداءً لآلاف الأمهات اللواتي يُودعن أبناءهن للبحر، ولا يعرفن إن كان سيعيدهم أم لا.
وجهك لم يعد فقط صورة في قلب أمك… بل صار رمزاً لنا جميعاً.
رمزاً للبرودة القاتلة حين يتحوّل الإنسان إلى رقم،
ورمزاً لصمت البحر حين يقرر أن يبتلع الحقيقة ويصمت.