سلايدر الرئيسيةسياسة

الشركات الجهوية متعددة الخدمات بين التجويد والتسليع

عقِب إحداث مجموعة الجماعات الترابية “طنجة تطوان الحسيمة للتوزيع” بقرار السيد وزير الداخلية رقم 39 الصادر بتاريخ 08 أكتوبر 2024، وانتداب 154 جماعة وعمالة وإقليم التابعة للجهة لمندوبيها بهذه المؤسسة المنتخبة الجديدة الذي سيصل عددهم إلى 171 عضوا، وتأسيس الشركات الجهوية متعددة الخدمات وفق قانون 21/83 التي سيعهد لها تدبير خدمات توزيع الماء الصالح للشرب والتطهير السائل والإنارة العمومية عند الاقتضاء حسب منطوق المادة الأولى من القانون المذكور، وذلك بواسطة عقد يجمع بين صاحب المرفق (مجموعة الجماعات..) والشركة الجهوية متعددة الخدمات. عقب هذا الإحداث تتبادر للذهن العديد من الأسئلة لعل أبرزها، هل ستتعزز الديموقراطية المحلية بهذا المولود الجديد أم هو شكل آخر من أشكال سحب الاختصاص من المجالس المنتخبة؟ هل ستعرف فاتورة الاستهلاك استقرارا أو ارتفاعا في عهد الشركات الجهوية؟

الغريب أن هذه المؤسسة “المنتخبة” المُسْتَحْدَثَة (مجموعة الجماعات الترابية طنجة تطوان الحسيمة للتوزيع) تختلف كَمّاً ونوعا عن المجالس الأصْلية، فهي ضخمة وكبيرة من حيث العدد (171 عضوا) ـ مجلس المستشارين يضم في عضويته 120 مستشارا ـ ومكتبها صغير لا يناسب حجمها برئيس وأربعة نواب فقط! رغم أن القانون التنظيمي 14/113 ينص في المادة 16 منه على أن الجماعات التي يبلغ عدد أعضائها 61 فما فوق يكون مكتبها مُكوّنا من الرئيس وعشرة نواب، حتى يُمثَّل أكبر عدد من الحساسيات السياسية المنتخبة بالمجلس، لكن مع هذا المكتب الضيق لمجموعة الجماعات ستجد بعض مدن وأقاليم جهة طنجة تطوان الحسيمة نفسها غير ممثلة داخل المكتب، وبالتالي سيغيب صوتها ومصالح من صوتوا عليها!

يعني أننا إزّاء عملية تهريب في واضحة النهار! فَبِفعل هذا القانون سيخسر هذا القطاع مراقبة العشرات من رؤساء الجماعات، والعمالات والأقاليم، والمئات من المستشارين المنتخبين، وحصر ذلك في يد رئيس واحد ومكتب رباعي، الذي سيتعاقد بدوره مع الشركة الجهوية متعددة الخدمات. كأن هذا القانون جاء ليقول للمنتخبين لا حاجة لنا بكم ولا بنقاشاتكم وأراءكم، فأنتم لا تستحقون إشراككم في شؤون المواطنين الذين صوتوا عليكم.

إنها المناسبة المواتية للانقضاض على ما تبقى من اختصاصات المجالس المنتخبة التي أظهرت في هذه الولاية ضعفا غير مسبوق في تدبير أبسط الملفات بَلْها بأعقدها.

بهذا القرار الحكومي ستتم مغربة هذا القطاع بتأسيس 12 شركة جهوية على الصعيد الوطني وإنهاء احتكار الشركات الأجنبية (أمانديس، ليديك، ريضال..) عبر التدبير المفوض، والخروج من تعدد أنماط التدبير المعمول بها (الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء، المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، التدبير المفوض، الجمعيات..) وتوحيدها في يد شركة جهوية واحدة حتى يتسنّى تأمين التوازن والعدالة المجالية في توزيع هذه الخدمات، وخاصة بالعالم القروي حيث نُدرة المياه مع توالي سنوات الجفاف والتغيرات المناخية، وسيضمن هذا النوع من التدبير التقائية الأطراف المعنية بمجال التوزيع، وكذلك توفير موارد مالية مهمة لتمويل الاستثمارات. هذا ما جاء في الدفوعات المبررة لاختيار هذا النموذج.

وقد دخلت مدينة طنجة لهذا النمط الجديد من التدبير منذ مصادقة مجلسها الجماعي شهر يوليوز 2024 على الاتفاقية الخاصة بإحداث مجموعة الجماعات الترابية “طنجة تطوان الحسيمة للتوزيع”، وانتدابه في دورة استثنائية لاحقة بتاريخ 30 أكتوبر 2024 ثلاثة من أعضائه ليمثلوه في هذه المؤسسة الجديدة.

للتذكير فقد عرفت طنجة سابقا تدبير قطاع الماء والكهرباء والتطهير السائل عبر الوكالة المستقلة التابعة للبلدية قبل نظام وحدة المدينة، التي كان يديرها مجلس إداري، لكن هذه الوكالة عانت من غياب التسيير المعقلن الذي أدى إلى تراكم ديونها فأصبحت عبئا على الميزانية المحلية، وعرفت فوضى في إدارتها من خلال ملف التوظيفات المثير للجدل حينها، كما أن التعثر الكبير والمتكرر لازَمَ مشاريعها الاستثمارية. وابتداء من سنة 2002 عرفت المدينة تجربة التدبير المفوض عبر شركة أمانديس التي أدخلت بعض التحسينات على الخدمة، مثل عصرنة وتنظيم بنية الاستقبال في إداراتها، والقيام ببعض المشاريع المتعثرة في عهد الوكالة المستقلة.. لكنها بالمقابل سقطت في عدم الالتزام بدفتر التحملات، فلم تنجز المشاريع المتفق عليها ولم تلتزم بآجال تنفيذها، حيث عرف تدبير صندوق الأشغال عدة اختلالات، ذلك أن المساهمات التي تقوم الشركة المفوض إليها بتحصيلها لا يتم دائما إيداعها بالكامل لحساب الصندوق بل غالبا ما يأتي متأخرا عن الآجال التعاقدية.

وقد أورد المجلس الأعلى للحسابات الملاحظة التالية في تقريره الصادر حول التدبير المفوض سنة 2014: “في مجال التوزيع، تقوم الشركات المفوض إليها بفوترة بعض الخدمات في غياب أي أســاس تعاقــدي أو قانوني، بل وأحيانا في غياب الإنجاز الفعلي للخدمات. ويتعلق الأمر على الخصوص، بالأتاوى المعمول بها بفضاءات الأداء، وبفوترة التطهير السائل على الرغم من عدم الربط بشبكة التطهير السائل، والفوترة مع الحد الأدنى (علما أن هذه الطريقة الأخيرة تم إلغاؤها في مارس 2011(، والواجبات المترتبة عن عمليات وضع وإزالة العدّادات، إضافة إلى مصاريف الإشعار ومصاريف قطع وإعادة التزويد، وكذا تضخيم فواتير الأشغال المنجزة لحساب أصحاب التجزئات”. وهو ما تسبب في الزيادة في التسعيرة حيث تضاعفت الفواتير مقارنة بما سبق، واعتمدت على أسلوب التقدير للاستهلاك عوض مراقبة العدادات، مما أدى إلى نشوب احتجاجات خطيرة بمدينة طنجة هددت السلم والاستقرار الاجتماعيين، اضطر معها رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله ابن كيران رفقة وزير الداخلية محمد حصاد لزيارة المدينة سنة 2016 لتهدئة الأوضاع عقب توالي المظاهرات على تردي خدمات أمانديس.

يمكن القول إن هذا الملف يشوبه الكثير من الغموض وعدم الوضوح وغياب المعلومة التي نص الدستور على توفيرها للمواطن فبالأحرى للمنتخب السياسي المسؤول عن ملف اجتماعي كبير. فلم تُعرض على المجلس الجماعي لطنجة وعلى باقي مجالس أقاليم الجهة العقود والمراسيم والاتفاقيات التي ستؤطر تقديم خدمات الماء والكهرباء والتطهير السائل، بل ستُحصَر دراستها على مجموعة الجماعات إن توصلت بها، وسيجد الأعضاء أنفسهم أمام مئات الصفحات من العقود المكتوبة باللغة الفرنسية بطريقة تقنية دقيقة يصعب على المتخصصين فك رموزها، فما بالك بمنتخبي 8 شتنبر! وما مصير العقد الحالي مع شركة أمانديس؟ هل ستنتظر الشركة الجهوية نهايته مع مَتم سنة 2026 أم سيتم تعويض أمانديس عن المدة المتبقية من العقد إن باشرت الشركة الجهوية العمل من الآن كما وقع في مدينة الدار البيضاء؟ وهل يملك أحد المنتخبين الإجابة على السؤال المركزي الذي طرحناه في البداية وهو الأهم في هذه العملية كلها: هل ستعرف تسعيرة الماء والكهرباء زيادة مع الشركات الجهوية متعددة الخدمات أم لا؟

إن ادعاء مغربة القطاع الذي يروج له الكثيرون دون اطلاع على القانون 21/83 الذي تنص الفقرة الأخيرة من مادته الثالثة على ما يلي: “يمكن للشركة فتح رأسمالها للقطاع الخاص على ألا تقل، في جميع الأحوال، مساهمة الدولة عن 10 بالمائة”. بمعنى أن 90 بالمائة من رأس مال الشركة سيَفتح أبوابه على مصراعيها للقطاع الخاص الوطني والأجنبي ليضع يده على هذه الشركات. سيما أن النص قد أتى خاليا من أية قاعدة تجعل الجماعات أو الدولة قادرة على مجرد حق الاعتراض على ما يمكن أن يتخذ من قرارات على مستوى المجلس الإداري لهذه الشركة، إضافة إلى أن النص المذكور يجعل لهذه الشركات طبيعة قانونية مزدوجة؛ فهي مقاولات عمومية؛ بحكم أن تأسيسها سيتم بمقتضى قانون صادر عن البرلمان، وتبعا لذلك فهي شركات يُفترض أن تخضع لوصاية الدولة، وفي الوقت ذاته هي شركات مساهمة تخضع في تدبيرها لقرارات مجلسها الإداري، مما يفتح المجال أمام إشكالات كثيرة.

كما أن هذه الهوية والطبيعة المزدوجة لهذه الشركات تتأكد من جهة أخرى بالنظر إلى أنها ستُوكَل إليها مهام تتعلق بالخدمة العمومية، وفي الوقت ذاته يتعين عليها الاضطلاع بخدمات تجارية يكون تحقيق وتوزيع الربح محور غاياتها!

“كما أن المراهنة على انخراط الخواص في المساهمة في إحداث هذه الشركات وتعبئة موارد مالية كبيرة في إنجاز الاستثمارات المطلوبة ، لا يعدو كونه احتمالا قد لا يتحقق، وفي الوقت ذاته يحيل على موضوع العدالة المجالية، ذلك أن إقبال الفاعلين الخواص على المساهمة في تأسيس هذه الشركات على مستوى بعض الجهات يأتي تبعا لما يتوقعونه من ربح، حيث سيتم الاستثمار في الجهات والأقاليم ذات العائد المادي وليس في الضواحي والمناطق النائية غير المجهزة التي تستوجب إنفاقا كبيرا، مما يجعل بعض الجهات أكثر جاذبية من غيرها، بل إن هذا الإشكال يطرح أيضا على مستوى برمجة الاستثمارات الضرورية داخل الجهة الواحدة والتي تعرف تفاوتا بيّنا فيما بين المدن والجماعات التابعة لها”. مقتطف من تدخل المجموعة النيابية للعدالة والتنمية أثناء توضيح موقفها القاضي بالتصويت بالرفض على القانون 21/83.

وكلنا يعلم أن هدف القطاع الخاص هو مراكمة الأرباح بعيدا عن منطق الخدمة العمومية لتحقيق حاجيات الساكنة، ولنا مثال حي في الشركات التابعة لرئيس الحكومة خاصة في قطاع المحروقات التي تحصد الأخضر واليابس دون حسيب أو رقيب، أو صفقة محطة تحلية مياه الدار البيضاء ـ وهي قريبة من اختصاص الشركات الجهوية متعددة الخدمات ـ التي رست على شركاته! فإذا كان القطاع الخاص الوطني غير رحيم مع بني جلدته، فكيف بالقطاع الخاص الأجنبي الذي سيخرج من الباب ويدخل من النافذة أكثر شراهة وتوحشا!

إن خوصصة قطاع استراتيجي واجتماعي وتسليعه، وجعله خاضعا لقانون العرض والطلب، دون مراعاة للوضعية الاجتماعية للمواطنين، خاصة في الفترة الراهنة التي تعرف تضخما يُرى أَثره الواضح في السوق حيث الغلاء الفاحش في جميع المواد الاستهلاكية، وتفاقم ظاهرة البطالة بِفَقدِ الاقتصاد الوطني ما مجموعه 82 ألف منصب شغل خلال الفصل الثاني من سنة 2024، وتراجع نسبة النمو، يعد مغامرة غير محسوبة العواقب، قد تتضاعف ارتداداتها ـ لا قدّر الله ـ خاصة بوجود فاعل سياسي ضعيف عاجز عن التواصل مع المواطنين.

تَميّز دستور 2011 بالتوجه نحو إرساء اللامركزية حيث مكّن الجماعات الترابية من ممارسة اختصاصاتها باستقلالية، وهكذا نصّ الفصل 136 على مبادئ التدبير الحر الذي يرتبط بحرية الجماعات في اختيار هياكلها وفي اتخاذ قراراتها وفي التعبير عن إرادتها، وتمتيعها بممارسة السلطة التنظيمية المحلية والتي تنصب على اتخاذ القرارات والقيام بالإجراءات التي يتطلبها حسن سير المرافق العمومية بكيفية منتظمة ومضطردة، مما يكرس الجماعات الترابية كوحدات حرة ومستقلة في علاقتها بمصالح الدولة.

اليوم يجد المسؤول السياسي المنتخب نفسه أمام مسلسل من سحب الاختصاصات تحت مسميات متعددة، تارة عبر تقاسمها مع مُوظَفين مُعَيّنين بعيدين عن الاشتباك اليومي المباشر مع المواطن، وتارة أخرى عبر شركات التنمية المحلية التي أثبت بعضها فشلها، وتارة ثالثة عبر الشركات الجهوية. فإلى متى سيستمر هذا الانحدار الديموقراطي، وما الداعي لوجود مجالس منتخبة دون اختصاصات حقيقية؟

محمد بوزيدان

09/11/2024

 

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق