د. نوفل الناصري
خبير اقتصادي ومالي وكاتب مغربي
في ظل التحولات المتسارعة التي يعرفها النظام العالمي وما ترتب عن ذلك من بوادر إعادة تشكل موازين القوى الإقليمية، استطاعت المملكة المغربية فرض منطقها كفاعل وازن وشريك موثوق وطرف حكيم وخصم شريف في معالجة قضية الصحراء المغربية. وقد تحقق اعتراف دولي على واقعية وجدية الرؤية المغربية للحل السياسي، وذلك من خلال التصويت على القرار 2797 لمجلس الامن الدولي بدون أي صوت معارض، وتصويت 11 دولة وامتناع 3 دولة (الامتاع كان بسبب الخلاف مع صاحبة القلم بالنسبة لروسيا والصين). ويرسخ هذا الاجماع الدولي مصداقية مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي واقعي وبراغماتي لتسوية نزاع الصحراء من خلال منح سكان المنطقة حكما ذاتيا موسعا تحت السيادة المغربية. هذا الانجاز الدبلوماسي التاريخي لا يمثل نصرا سياسيا للمغرب فحسب، بل يعبر عن حكمة وبعد نظر الملك محمد السادس في بناء توافق أممي يخدم التنمية والاستقرار ويكرس السيادة الوطنية المستدامة على امتداد الأقاليم الجنوبية المغربية.
الدلالات السياسية والقانونية والديبلوماسية لقرار مجلس الامن رقم 2797
يشكل قرار مجلس الأمن رقم 2797 لحظة مفصلية في تاريخ قضية الصحراء المغربية، ونقطة تحول استراتيجية في مسارها المستقبلي، ليس فقط من خلال تغيير لغة الأمم المتحدة من تعبيرات الحياد الرمزي إلى الانحياز الفعلي للواقعية السياسية، بل أيضا عبر إعادة صياغة المفاهيم القانونية والدبلوماسية المرتبطة بالنزاع المفتعل. هذا التحول الكبير يعكس اقتناع المجتمع الدولي بأن الحل المغربي هو الطريق الوحيد الممكن، ويُنهي بذلك ازدواجية المرجعيات التي كانت تُربك المفاوضات.
فعلى المستوى السياسي، قام مجلس الأمن بكسر الجمود التاريخي الذي طال الملف، وجعل المقترح المغربي للحكم الذاتي هو أساس التفاوض والإطار العملي الوحيد للنقاش الأممي (لا مسار تفاوضي في هذا الملف خارج مبادرة المغرب للحكم الذاتي)، وأنه هو نقطة انطلاق ونقطة وصول في آن واحد -بمعنى أي مقترح حول مستقبل الصحراء المغربية يجب ضرورة أن “ينطلق من أرضية الحكم الذاتي ليصل إلى الحكم الذاتي”-، مع إلغاء فعلي لخيار “الاستفتاء” الذي فقد وجاهته القانونية وواقعيته الميدانية. لقد أعاد المجلس تعريف مبدأ “تقرير المصير” ليصبح ممارسة ديمقراطية وشكل من أشكال الحكم داخل السيادة الوطنية، لا مطلبا انفصاليا. مما يمهد لطي الملف بشكل نهائي في الأجندة الدولية.
أما على المستوى القانوني، فقد أحدث قرار مجلس الأمن تحولا بنيويا في مقاربة الملف؛ إذ انتقل من منطق “تصفية الاستعمار” الذي كان يُستخدم كذريعة لإدامة النزاع، إلى منطق “الترسيخ السيادي” الذي يَقرُّ بأن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الإطار القانوني والتنظيمي الوحيد المخوَّلُ لإرساء الإرادة الفعلية للسكان وتحديد مصيرهم، وبالتالي يمكن اعتبار هذا القرار مرجعية قانونية جديدة لإخراج الملف من “اللجنة الرابعة”. علاوة على ذلك، يمنح القرار للمملكة المغربية شرعية متجددة لممارسة سلطتها السياسية والإدارية والاقتصادية في الأقاليم الجنوبية، ويتيح لها تطوير الاتفاقيات الدولية والشراكات الاستراتيجية التي تخص هذه المنطقة، دون الحاجة إلى تبريرات قانونية استثنائية أو رهانات على مسارات سياسية غير واقعية (يمكن أن تبرز أثناء التفاوض المستقبلي مع أطراف النزاع).
من الناحية الدبلوماسية، يفتح قرار مجلس الأمن واقعا جديدا للمغرب في مجال الحكامة على صعيد الصحراء المغربية، حيث تحول دور بعثة (المينورسو) من إدارة النزاع إلى مواكبة الحل السياسي القائم على مبادرة الحكم الذاتي المغربية. لهذا جدد مجلس الأمن ولاية البعثة وتوجيه مهامها لدعم وتسريع جهود المبعوث الشخصي للأمين العام، بهدف تيسير التفاوض بين الأطراف على أساس المبادرة المغربية كإطار وحيد وواقعي للحل الدائم.
ترسخ هذه التحولات صورة المغرب كدولة مستقرة ومسؤولة وشريك دولي موثوق، فقد استطاع تقديم نموذج تنموي تنصهر فيه العدالة الاجتماعية مع التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي، وفتح أبواب الصحراء المغربية أمام شراكات دولية متزايدة في مجالات استثمارية متنوعة. هذا التصويت على قرار 2797 هو تصويت على النموذج المغربي الحالي وهو يعكس تزايد ثقة المجتمع الدولي في قدرة المغرب على قيادة مسار التسوية، وتحويل المنطقة إلى منطقة حيوية للاستقرار وللاستثمار ولتعزيز الروابط الإقليمية والدولية وبناء الاتحاد المغاربي الكبير، بدلا من أن تبقى مجالا للنزاع والصراعات المتكررة ومستنبتا للإرهاب..
خطاب الفتح المبين: ضمانة ملكية لتحويل المكاسب الدبلوماسية إلى منجزات واقعية في الصحراء المغربية
تأتي أهمية خطاب جلالة الملك محمد السادس بتاريخ 31 أكتوبر 2025، مبشرة بعد اعتماد مجلس الأمن لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، في بسطه للرؤية الملكية في رسم خارطة طريق مستقبلية واضحة لتحويل المكاسب الدبلوماسية إلى واقع تنموي وسياسي ملموس في الصحراء المغربية. فقد اعتبر جلالة الملك القرار الأممي بمثابة “انتصار للشرعية ولإرادة التنمية والاستقرار”، مؤكدا أن الحل المغربي يتجاوز كونه مجرد مبادرة سياسية، بل إنه رؤية شاملة ومندمجة تعطي الأولوية لتمكين الساكنة المحلية من المشاركة الفعلية في إدارة شؤونها، مع الحفاظ على السيادة الوطنية.
يتسم الخطاب بحكمة استراتيجية وأفق طويل المدى، إذ يدعو الملك بشكل واضح إلى ضرورة التحول من مرحلة الدفاع عن المكاسب السياسية إلى مرحلة التثبيت والتفعيل، حيث لا يكفي اليوم الحصول على الاعتراف الدولي، بل يتطلب الأمر ترجمة هذا الاعتراف إلى مشاريع تنموية واقعية تعزز الحماية الاجتماعية والنمو الاقتصادي والاندماج الإقليمي، وتضمن بالتالي الاستقرار البنيوي لهذه الأقاليم الجنوبية؛ لذلك أعلن الملك، أنه سيقوم بتحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي وتقديمها للأمم المتحدة لتكون الأساس الوحيد للتفاوض، باعتبارها الحل “الواقعي والقابل للتطبيق”.
إضافة إلى ذلك، يهدف الخطاب الملكي إلى إيصال رسالة مفادها أن المغرب دولة مسؤولة ذات مصداقية، وأن قوتها من قوة جيرانها واستقرارها من استقرارهم، لذلك لا يهدف جلالته فقط إلى حماية سيادة بلده وإنما أيضا لتعزيز الترابط الاخوي والتعاون مع الجيران، لا سيما الجزائر. وهو بذلك يُجسد حرص المغرب على استقرار المنطقة بشكل عام وعدم السماح لأي توترات مستقبلية قد تضر بالإقليمي بأسره.
لقد استطاع الملك من خلال هذا الخطاب وضع الشرعية الوطنية في توافق مع الشرعية الدولية، وأسس لخارطة طريق شاملة لاجتياز مرحلة التحولات الراهنة، وتحويل القرار الأممي والاجماع الدولي إلى حاضنة سياسية واجتماعية، وإلى شرعية سياسية ودستورية مستدامة تنطلق من: (1) واقع التنمية (تضع الصحراء المغربية في قلب استراتيجية التنمية الوطنية والإقليمية)، (2) والتشاركية (الاشراك السياسي والثقافي لمكونات الصحراء المغربية ضمن الوطن الكبير) (3) والحوار الاخوي الصادق (مع أطراف النزاع، خصوصا الجزائر فقد تمت الإشارة إليها بصفتها “طرفاً رئيسياً” في النزاع، حيث ذُكرت في القرار خمس مرات، مما يضعها في موقف دبلوماسي صعب ويفرض عليها المشاركة في المفاوضات)، مما يعزز سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، ويضمن نجاح تنزيل خطة الحكم الذاتي المغربي بفعالية وتميز واستدامة.
كيف أقنع المغرب المنتظم الدولي بمصداقية مبادرة الحكم الذاتي في ظل السيادة المغربية
استطاع المغرب التحول من موقع المدافع إلى موقع الفاعل، ومن موقع التابع إلى موقع الشريك الاستراتيجي، ولم ينتظر مسطرة المفاوضات والقرارات الأممية ليحدد مكانه ومكانته في قضية الصحراء المغربية، بل ساهم في صناعتها وتثبيتها. ويتوفر المغرب على عدة مقومات حوّلها بذكاء إلى قوة ناعمة وصلبة أثرت في مواقف القوى العالمية (أمريكا، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين)، ودفعتها عن قناعة واقتناع إلى تبني المقترح المغربي للحكم الذاتي واعتباره الحل الواقعي والوحيد للنزاع. وبالإضافة للشرعية التاريخية للصحراء المغربية ولحجيتها القانونية ولمقاربة التدرج الواقعية، والحنكة الديبلوماسية المغربية، هناك 3 مقومات مفصلية أخرى، ساهمت بشكل كبير في اقناع المنتظم الدولي بالطرح المغرب وهي:
أ- القوة الجيوسياسية للمغرب، فقد أثبت خلال العقدين الماضيين قدرة فريدة على لعب دور “قوة محورية” و”حليف استراتيجي ذو مصداقية” بين ضفتي المتوسط وغرب إفريقيا، وهو ما جعل مبادرته للحكم الذاتي تندرج ضمن رؤية شمولية للاستقرار الإقليمي وحماية الممرات التجارية وخطوط الطاقة والتجارة نحو أوروبا علاوة على ذلك، اعتمدت المملكة مقاربة تنويع شراكاتها الدولية (أمريكا، أوروبا، الصين، روسيا) لكسر أي محاولة للعزل الدبلوماسي ولبناء شبكة توازنات تمنع فرض أي صيغة تسوية تضر بمصالحها الاستراتيجية، وهو ما انعكس في امتناع موسكو وبكين عن التصويت دون اعتراض، ودعم صريح من البيت الأبيض وباريس ولندن وبرلين ومدريد.
ب- الارتباط الوثيق بين الحكم الذاتي والتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والنجاعة الأمنية، فقد استطاع المغرب من خلال مقاربته التنموية للأقاليم الجنوبية، كشف زيف مزاعم الإقصاء، وأقنع القوى الدولية بأن الحكم الذاتي سيحول المنطقة إلى قطب استقرار وتنمية عابرة للحدود، خصوصا في ظل انتشار أزمات الانقلابات والفوضى في الساحل (الإرهاب والهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة)، ما يجعل المقترح المغربي عامل وقاية إقليمي وليس فقط موضوع تسوية محلية. في سياق متصل، يقدم مشروع الحكم الذاتي نموذجا واقعيا وأصيلا في استيعاب الهويات الحسانية والثقافية المحلية ضمن دولة موحدة مستقرة وقادرة على احترام هذا التنوع المنصوص عليه دستوريا، وهو طرح أقنع عدة أعضاء بمجلس الأمن بأنه تجربة متقدمة تستحق الإسناد والتعميم، عكس الأطروحات الانفصالية التي تنذر بخلق حالات صراع دائم.
ت- المصلحة المشتركة والواقعية السياسية، لم تجدا كل من الصين وروسيا في المبادرة المغربية تهديداً لمصالحهما الاستراتيجية أو النظام الدولي على الرغم من كونهما يتعاملان بحذر تقليدي في التعامل مع ملفات النزاعات الدولية، مما دفعهما للامتناع دون معارضة صريحة، مع إبقاء الأبواب مفتوحة لتوافقات مستقبلية مع المغرب. هذه الخطوة تعكس اقتناع يستند إلى تقييم دقيق لمدى تأثير مبادرة الحكم الذاتي على مصالحهما الاستراتيجية، والتي تشمل مصالحهما في استقرار منطقة شمال إفريقيا والمحيط الأطلسي، حيث تبرز الأهمية الكبيرة لاتجاهات الطاقة البحرية، والممرات التجارية الحيوية، وكذلك التشابكات الاقتصادية المتعددة الأطراف وخصوصا درة المغرب على الربط بين إفريقيا وأوروبا ودول الخليج. لقد تجاوزت المبادرة المغربية الإطار الجغرافي والإقليمي وذلك من خلال جذب دعم كل الدول العربية “باستثناء الجزائر” وعدة دول من آسيا، إفريقيا، وأمريكا اللاتينية التي شهدت في القرار الأخير “شبه إجماع” تاريخي، والذي تُرجم بمشاركة 11 دولة مؤيدة مقابل امتناع 3 دول فقط دون أي صوت معارض، وكأن هذه الدول تقول: إن المصالح الوطنية لا يمكن تحقيقها إلاّ في إطار حلول عملية مستندة إلى واقع سياسي مستقر، وهو ما تتحقق به مبادرة الحكم الذاتي على أرض الواقع.
ما بعد 31 أكتوبر 2025: مرحلة تثبيت المكسب التاريخي والحسم النهائي لقضية الصحراء المغربية
من خلال رصد التفاعلات التي وقعت عقب اعتماد القرار 2797 في مجلس الامن وتبني المنتظم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية لحل نزاع الصحراء المفتعل، يتضح أن واجب الوقت بالنسبة للمغرب والمغاربة هو اعتماد رؤية شمولية تجمع بين القوة والحزم في الدفاع عن الحقوق الوطنية والمرونة والتوازن في مواكبة التحولات الإقليمية والدولية. ومن هذا المنطلق، تتحدد أولويات العمل المغربي المستقبلية في عدة محاور متداخلة، تشمل: (1) تعزيز الحضور الدبلوماسي والإعلامي على الصعيد الدولي لشرح مرتكزات القرار وإبراز شرعية المبادرة المغربية، بما يعزز قناعة المجتمع الدولي بكونها الحل الفعال والنهائي للنزاع. (2) استثمار الزخم الدولي والسياسي عبر توسيع الاستثمارات الموجهة نحو الأقاليم الجنوبية، بما يعزز مكانتها في النموذج التنموي المغربي ويجسد إرادة الدمج الفعلي لهذه المناطق ضمن التنمية الوطنية الشاملة. (3) كما يتطلب الأمر، استدامة التحرك قانونيا وإقليميا وإفريقيا لإقبار سرديات التقسيم والاستفتاء، وترسيخ مبادئ التوافق والحلول المتدرجة التي باتت تمثل الواقع الجديد ويتوافق عليها كل القوى الدولية. (4) ويكتمل هذا الإطار بترسيخ ثقافة الحوار والانفتاح مع مكونات المجتمع المحلي، لضمان إشراك فعلي بما يعكس الطابع الديمقراطي والتشاركي للنموذج المغربي، ويؤكد للمجتمع الدولي المصداقية الديمقراطية لمبادرة الحكم الذاتي واحترامها لتطلعات السكان.







