بقلم: هدى المساوي
في زمنٍ امتلأت فيه الساحات بالضجيج، وانكمشت فيه الأصوات الصادقة خلف جدران الخوف، برز من بين رماد الصمت رجلٌ بصوتٍ جهوريٍّ، صادقٍ، لا يشبه إلا نفسه. خرج ناصر الزفزافي من قلب الريف، من جبالٍ عرفت القهر والصبر معاً، ليقول ما لم يجرؤ الكثيرون على قوله: إنّ الكرامة ليست ترفاً، والحرية ليست جريمة، والمطالبة بالعدالة ليست خروجاً عن القانون، بل دفاعٌ عن الحياة.
من رحم المعاناة وُلد الصوت
ولد الزفزافي في بيئةٍ بسيطة، في منطقةٍ طالها التهميش والإهمال لعقود. الريف المغربي، الذي قدّم الكثير للوطن، كان يشعر أنه بعيد عن مراكز القرار، بعيد عن التنمية، بعيد عن صوت الوطن الذي يدّعي احتضانه. ومن هناك، من قلب المعاناة اليومية، تشكّل وعي الزفزافي السياسي والإنساني.
لم يكن يحمل فكراً مؤدلجاً ولا مشروع حزب، بل كان يحمل همّ الإنسان البسيط الذي يحلم بمدرسةٍ محترمة، بمستشفىٍ لائق، بعملٍ يضمن الكرامة، وبدولةٍ تُنصف أبناءها جميعاً دون تمييز.
في عام 2016، حين اشتعلت شرارة حراك الريف إثر حادث مأساوي هزّ الضمير المغربي، تحوّل الزفزافي إلى رمزٍ للغضب الشريف، إلى صوتٍ جمعيٍّ يصرخ باسم آلاف المواطنين الذين ضاقت بهم سبل الحياة. كانت كلماته في الميادين تُلهب الحناجر، لكنها كانت في الوقت نفسه تدعو إلى السلمية، إلى الوعي، إلى النضال بالحجة لا بالعنف. كان يقول: “لسنا ضد الوطن، نحن ضد من يسيء إليه.”
بين الشارع والسجن: قصة الإنسان الذي لم ينكسر
حين اعتُقل الزفزافي، لم يُكبلوا رجلاً فحسب، بل حاولوا إسكات فكرة. ومع ذلك، فإنّ الأفكار لا تُعتقل.
داخل أسوار السجن، ظل صوته حاضراً في الضمير الشعبي، وظل الناس يتداولون كلماته كما لو كانت شعلةً لا تنطفئ.
لقد تحوّل الزفزافي إلى رمزٍ للثبات والصمود، إلى تجسيدٍ حيٍّ لمعنى التضحية في سبيل المبدأ. لم يساوم، لم يعتذر عن حلمه، لم يبدّل موقفه، لأنّه لم يكن يسعى إلى مجدٍ شخصي، بل إلى وطنٍ يستحق الحياة.
في الزفزافي تلتقي الجرأة بالصدق، والإنسانية بالعنفوان. حين تتأمل مسيرته، تدرك أنه لم يكن يبحث عن مواجهة، بل عن إصغاء. أراد فقط أن يسمعه من بيده القرار، أن يقول له: “نحن جزء من هذا الوطن، فامنحونا مكاناً فيه.”
الزفزافي كرمز وطني وإنساني
ليس من السهل أن يتحول إنسانٌ بسيط إلى رمزٍ وطني. الرموز تُصنع من المواقف لا من الشعارات، والزفزافي قدّم الموقف في أنقى صوره.
لقد أصبح اسمه مرادفاً لـالكرامة، والشجاعة، والإصرار على قول الحقيقة مهما كانت العواقب.
ومن الريف الصغير، امتد صدى صوته إلى كل المدن المغربية، ثم إلى العالم، حتى صار رمزاً للحرية الإنسانية في وجه الظلم أينما كان.
في كل تجربة نضالية، ثمة أشخاص يختارون أن يحترقوا ليضيئوا الطريق. الزفزافي واحدٌ من هؤلاء. هو الشمعة التي أحرقت نفسها من أجل أن يرى الناس النور.
قد يُسجن الجسد، لكن الفكرة، كما قال يوماً أحد الأحرار، “هي الطائر الذي لا يمكن أن يُحبس في قفص.”
وفي كل مرة يُذكر فيها اسمه، تُستعاد معه قيم الصدق والوفاء للوطن.
ما الذي علمنا إياه الزفزافي؟
علّمنا الزفزافي أن الوطن ليس مجرد أرضٍ وحدود، بل هو كرامة الإنسان أولاً.
علّمنا أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بالصبر والإيمان والوعي.
علّمنا أن صوت الحق قد يُقمع، لكنه لا يُمحى.
وعلّمنا أن التاريخ لا يخلّد الأقوياء فقط، بل يخلّد الشجعان الذين تجرؤوا على قول كلمة “لا” حين كان الجميع يهمس “نعم”.
خاتمة: الشمعة التي لم تنطفئ
ربما ظنّ البعض أن اعتقال الزفزافي سيُطفئ الحراك، لكن ما لم يدركوه هو أن الشموع حين تُطفأ، تترك وراءها نوراً يظلّ عالقاً في الذاكرة.
الزفزافي اليوم ليس مجرد اسم في ملف قضائي، بل هو فكرة حيّة في قلوب الأحرار، في الريف، وفي كل شبرٍ من أرضٍ تتوق إلى العدالة.
قد يُسجن الجسد، لكن الصوت الحر لا يموت.
وسيظلّ ناصر الزفزافي عنواناً لفصلٍ مضيءٍ من حكاية الشعب المغربي — حكايةٍ كتبها بالصدق، بالحلم، وبنور شمعةٍ احترقت لتضيء لنا جميعاً طريق الكرامة.







