حميد النهري – أستاذ جامعي في المالية العامة
يُرتقب أن يشهد البرلمان مع بداية الأسبوع المقبل مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2026، في سياق سياسي واجتماعي واقتصادي بالغ الدقة، يضع الحكومة والبرلمان أمام اختبار حقيقي لمسؤوليتهما في نهاية الولاية.
وفي هذا السياق، اعتبر الأستاذ الجامعي في المالية العامة حميد النهري أن النقاش حول قانون المالية المرتقب لا يمكن أن يقتصر على الأرقام والتوازنات التقنية، بل يجب أن يتحول إلى لحظة سياسية كبرى لتجديد الثقة في المؤسسات واستعادة التوازن الاجتماعي، من خلال تبنّي التوظيف المباشر كآلية لمواجهة البطالة، وفرض ضريبة على الثروة والإرث كمدخل لتحقيق العدالة الجبائية.
ويرى النهري أن مشروع قانون المالية 2026 سيُشكّل إما نقطة تحول حقيقية في مسار الإصلاح، أو مجرد وثيقة مالية انتخابية في آخر لحظات الولاية الحكومية، مؤكّدًا أن المرحلة تتطلب إرادة سياسية قوية وابتكارًا في إيجاد حلول تمويلية واقعية تُجيب على انتظارات الشارع المغربي.
المقال كاملا:
من المرتقب بداية الأسبوع المقبل وضع مشروع قانون المالية لسنة 2026 لدى البرلمان لمناقشته، ويأتي ذلك في سياق وطني دقيق تتقاطع فيه الرهانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وإذا كانت أرقام الميزانية السنوية في العادة تعتبر بمثابة الترجمة الفعلية للبرامج القطاعية للدولة والتفعيل العملي لسياساتها العمومية، وذلك من خلال تقديمها أجوبة واضحة ومحددة على احتياجات مختلف القطاعات انطلاقًا من أولويات الدولة،
فإن هذه السنة تشكل استثناءً على أكثر من مستوى.
فمن جهة، تعتبر السنة الأخيرة في عمر الولاية الحكومية والبرلمانية، الشيء الذي سيجعل النقاش حول قانون المالية 2026 أكثر أهمية، باعتباره القانون المالي الأخير لهذه الحكومة، ومن جهة أخرى مستوى التجاوب مع التحديات الآنية المفروضة بشكل كبير حاليًا.
ويمكن تلخيص هذه التحديات الكبرى في ثلاثة تحديات كما يلي:
أولًا: إلزامية التجاوب مع التوجيهات الملكية الواضحة وبلورتها على أرض الواقع
فكما هو معلوم، كان خطاب العرش لسنة 2025 حاسمًا، ورسم أولويات المرحلة المقبلة، إذ دعا إلى جيل جديد من برامج التنمية الترابية يقوم على توحيد الجهود حول مشاريع ذات أثر ملموس، وتهم بالأساس:
دعم التشغيل من خلال تثمين المؤهلات الاقتصادية الجهوية وتوفير مناخ ملائم للاستثمار المحلي.
تقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية، خاصة في مجالي التعليم والصحة، بما يصون كرامة المواطن ويكرس العدالة المجالية.
اعتماد تدبير استباقي ومستدام للموارد المائية في ظل تزايد حدة الإجهاد المائي والتغيرات المناخية.
إطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمج في انسجام مع المشاريع الوطنية الكبرى.
إذن من المنتظر أن يشكل قانون المالية 2026 الأداة المحورية لتفعيل هذه التوجيهات عبر برمجة مالية دقيقة، وضبط أولويات التمويل العمومي بما يضمن الانسجام بين هذه البرامج والقدرة الفعلية على التنفيذ.
ثانيًا: مسؤولية مؤسسات الدولة، سواء الحكومة أو البرلمان، في بلورة سياسات عمومية تتجاوب مع حاجيات المواطنين
في هذا الإطار، أكد الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان على أهمية المرحلة، باعتبارها السنة الأخيرة لولاية الحكومة والبرلمان، لذلك عليهم التحلي باليقظة والوفاء بمسؤوليتهم السياسية قبل الانتخابات التشريعية المقبلة.
فالمرحلة لا تحتمل التهرب من المسؤولية، بل تستوجب تقديم حصيلة واقعية بالأرقام لما تحقق وما لم يتحقق.
لذلك ستشكل مناقشة ميزانية 2026 فرصة أمام جميع الفاعلين، من جهة لتحمل مسؤوليتهم في مناقشة القضايا المستعجلة والاستراتيجية، وتأكيد أن البرلمان، دستوريًا، هو المؤسسة الوحيدة المؤهلة لمناقشة السياسة العمومية،
ومن جهة أخرى، للتجاوب مع المطالب الآنية للمجتمع واقتراح حلول تمويلية عملية ملموسة لتفعيل هذه المتطلبات.
ثالثًا: السياق الاجتماعي المحتقن
كما هو معلوم، تميزت الأسابيع الأخيرة بتصاعد موجة احتجاجات شبابية أكدت على وجود أزمة وساطة واضحة بين الدولة والمجتمع.
فهذه الاحتجاجات تتسم بغياب حقيقي للتأطير الحزبي أو النقابي أو المدني،
الشيء الذي يجعل منها دينامية اجتماعية تفرض تحديًا أمام مختلف الفاعلين السياسيين في كيفية استيعاب مطالب هذه الفئات الواسعة من الشباب، خصوصًا في ظل وضعية تتسم بتزايد نسبة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي.
وسيشكل مضمون أو مناقشة مشروع قانون المالية 2026 فرصة لقياس ما إذا كان الفاعل السياسي قد استوعب رسائل الاحتجاجات ومستعدًا لمناقشتها وبلورة حلول عملية ملموسة للإجابة عنها.
إذن ثلاث تحديات ستشكل أسئلة واضحة لقانون المالية لسنة 2026، الذي لن يكون مجرد وثيقة مالية عادية، بل مرآة لمرحلة سياسية تتسم من جهة بسياق انتخابي يفرض الواقعية والمساءلة، ومن جهة أخرى بأزمة اجتماعية واضحة تفرض تقييم مدى قدرة الدولة على التوفيق بين المتطلبات الاقتصادية والتطلعات الاجتماعية.
بطبيعة الحال، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الإكراهات المالية والاقتصادية الحقيقية التي يأتي في ظلها مشروع قانون المالية 2026،
وتتمثل في ما يلي:
1. وضع اقتصادي متقلب يتميز ببطء التعافي بعد سنوات من الأزمات المتتالية.
2. ضعف التمويل في إطار المعادلة الصعبة بين ارتفاع النفقات، خصوصًا الاجتماعية، مقابل انخفاض الموارد.
3. محدودية التفعيل الحقيقي للإصلاح الجبائي، سواء على المستوى المالي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.
4. كلفة التجاوب مع انتظارات الشارع، خصوصًا في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل، والتي تتطلب تمويلًا حقيقيًا لإبراز إرادة الدولة في إعادة التوازن الاجتماعي.
لكن لا يمكن أن تكون هذه الإكراهات عائقًا يتم الاختباء وراءه وتقديمها كسبب لعدم التجاوب مع التحديات المفروضة،
بل أكثر من ذلك، لا ينبغي اعتبار مشاريع كبرى أخرى (كالملاعب) أولوية، خصوصًا أمام توالي النتائج الإيجابية لمنتخب كرة القدم.
إذن على الجميع أن يتحمل مسؤوليته، سواء الحكومة أو البرلمان، فنحن أمام أزمة معقدة، ونعرف جيدًا أن قيمة الحكومة أو البرلمان تظهر خلال الأزمات.
فعوض الاختباء وراء أرقام الظرفية الصعبة، لا بد من ابتكار حلول عملية للتجاوب مع مطالب المجتمع وتجاوز الإكراهات المالية،
وفي هذا الإطار لا بد من اعتماد مبدأ “البحث عن الأموال حيث توجد” وليس الاقتصار على “الأموال السهلة” المتمثلة في ضرائب الاستهلاك والأجراء والموظفين.
ولتجاوز هذه الإكراهات لا بد من اعتماد ثلاثة توجهات:
1. حل إشكالية التشغيل:
على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها وتتجاوز المنظور الضيق الذي يفيد بأنها لم تعد قادرة على التوظيف، أو أن عدد الموظفين كبير ويؤثر على اختياراتها، لأن الجميع يعرف اليوم أن الدولة لا تزال في حاجة إلى موظفين في جميع القطاعات.
فعند المقارنة مع بعض الاقتصاديات المشابهة لبلادنا من حيث عدد الموظفين بالنسبة لعدد السكان، نجد أننا متأخرون ولا نزال في حاجة إلى موظفين.
إذن أتصور إمكانية حملة من التوظيف المباشر الشفاف لامتصاص البطالة، وهو حل صعب لكنه ليس مستحيلًا، ويتطلب فقط إرادة سياسية قوية وابتكارًا لتجاوز التكلفة المالية لذلك.
2. حل إشكالية العائق المالي من خلال:
توسيع الوعاء الجبائي ليشمل الأثرياء. فبعد تردد كبير منذ أكثر من 40 سنة، حان الوقت – وأظن أننا تأخرنا – في التنصيص على ضريبة تهم الأثرياء، سواء على الثروة أو على الإرث،
لتحقيق بعض مبادئ العدالة الضريبية التي أكدت عليها المناظرات الضريبية لسنة 1999 و2013 و2019، كما أكد عليها عدد من المفكرين الاقتصاديين المغاربة.
سيقول بعض “الطبّالة” إن هذه التصورات مستحيلة وغير عملية، لأنهم يتمسكون بتحليل أصبح متجاوزًا اليوم في أغلب التجارب المعاصرة.
ويكفي إعطاء مثال بالنقاش الدائر في فرنسا حاليًا حول ضريبة الأثرياء، ونداءات اقتصاديين كبار حاصلين على جائزة نوبل للاقتصاد الذين أكدوا على ضرورة فرض ضريبة على الثروة.
كما أن هناك مبادرة فريدة من نوعها، تستهدف تحقيق عدالة ضريبية أكبر بين الأثرياء والفقراء حول العالم، أطلقتها إسبانيا والبرازيل،
وتهدف إلى تحصيل ضرائب أعلى من الأثرياء لمعالجة التفاوت المتزايد. بل أكثر من ذلك، طالبت البلدان حكومات العالم بالانخراط في المبادرة لتحقيق نظام ضريبي عالمي أكثر عدلًا وتقدمًا.
وقد أُعلن عن هذه المبادرة في المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية المنعقد في إشبيلية مؤخرًا، والذي انصب اهتمامه على مساهمة الأفراد الأكثر ثراء بنسبة أقل في الموارد المالية العامة مقارنة بدافعي الضرائب العاديين.
فالعدالة والإنصاف الضريبي يشكلان أساس العدالة الاجتماعية، وهذه الأخيرة هي مفتاح التنمية الشاملة.
3. الحسم في طبيعة علاقة الدولة مع القطاع الخاص:
فأمام طبيعة هذا القطاع، خصوصًا الوطني، الذي يعتمد على الدولة وفي الوقت نفسه يدعي الليبرالية، لا يمكن الاعتماد عليه للمساهمة في منظومة الخدمات الاجتماعية.
وبالتالي، لا بد للدولة أن تتحمل مسؤوليتها على صعيد التنمية الاجتماعية من خلال القطاعات الأساسية (الصحة، التعليم، السكن).
وأي اختيار غير ذلك في هذه الوضعية ستكون عواقبه خطيرة على الاستقرار الاجتماعي.
وفي الأخير، لا بد من الإشارة إلى أن مشروع قانون المالية 2026 المرتقب مناقشته بداية الأسبوع المقبل في البرلمان، لا يمكن تحميله كل هذه التحديات،
لكن السياق العام الذي جاء فيه فرض عليه اختيارين:
إما أن يشكل نقطة تحول في التجاوب مع التحديات المجتمعية المستعجلة والضرورية، أو ما أصبح يُعرف بصوت الشارع ومطالب الاحتجاجات، وبالتالي إضفاء نوع من الثقة في المؤسسات،
وإما أن يكون مجرد قانون مالية عادي جدًا كغيره من القوانين، يعتمد ميزانية انتخابية تحاول بأرقامها كسب الوقت في آخر لحظات الولاية.
وفي كلتا الحالتين، سيبقى السؤال المركزي الذي يطرحه الرأي العام هو:
هل أرقام ومعطيات ميزانية 2026 ستترجم السياسة العمومية بشكل ملموس وتؤثر في معيش المواطن؟