محمد بن جلول
تابعت احتجاجات حركة “جين زي Gen z 212” في مدينة طنجة، وشاركتهم احتجاج يوم الاربعاء فاتح أكتوبر من البداية إلى النهاية؛ وكان من بين دوافع هذه المشاركة معرفة طبيعة هذه الحركة الاحتجاجية الشبابية الجديدة التي تشكلت بطريقة مختلفة عن حركة شباب 20 فبراير، واعتمدت في نقاشها وبلورة مطالبها على منصة كانت في الأصل مرتبطة بالألعاب الالكترونية. ويكفي أن تفكر في حركة احتجاجية انطلقت من فضاء اللعب والبحث عن المتعة الافتراضية على منصات الألعاب الالكترونية مثل روبلوكس وغيرها لتتشكل لديك دوافع قوية لمعرفتها بعيدا عن الخطاب السطحي الذي يسارع إلى استنتاجات خاطئة واتهامات بدون بينة وتركيب صور نمطية للتدوير الإعلامي عبر الوسائط الاجتماعية الحديثة.
وقد وقع البعض للأسف في شراك الخطاب السطحي التحريضي منذ اليوم الأول الذي خرجت فيه هذه الحركة إلى الاحتجاج العلني؛ فسارعوا الى إتهامها بالعمالة للخارج واستهداف استقرار البلد؛ وتساوقت مع هذا الخطاب، بقصد أو بدونه، الأجهزة الأمنية من خلال حملة اعتقالات تعسفية واسعة. والغريب في تصرف الأجهزة الأمنية هو تعاملها الميداني الذي يعطي انطباعا بأنها في حاجة الى تكوين وتطوير في أساليب التعامل مع الاحتجاجات السلمية، إذ تجد العناصر الأمنية التي تتلقى التعليمات نفسها محرجة أمام مطالبات الشباب بتوضيح أسباب الاعتقال.
وكان يفترض، أمام تصدر المقاربة الأمنية لموضوع احتجاج حركة جيل زاي، وتواري المعنيين بالسياسات العمومية من أعضاء الحكومة ومؤسسات التابعة للقطاعات الحكومية، أن تقف الأجهزة الأمنية وتراقب الوضع عن كثب وتدرس نوايا الشارع قبل أن تتخذ أي خطوة خصوصا إذا علمنا بأننا أمام حركة معروفة مطالبها، وقد تفجر جزء من المشاكل العويصة المتعلقة بها بمستشفى أكادير.
ومعلوم أن هذه الحركة أطلقت على نفسها حركة “جيل زاي 212” ، وجيل زاي (Generation z) يطلق على المولودين بين منتصف التسعينات ونهاية العشرية الأولى من الالفية الثالثة، وهم الذين ولدوا ونشأوا في سياق موجة التحول الرقمي واتنشار التكنولوجيا الرقمية، ويطلق عليهم أيضا الجيل الرقمي أو المواطنون الرقميون. ولأن هذه الحركة الاحتجاجية أطلقها شباب مغاربة، فقد حرصوا على تميز أنفسهم عن نفس الجيل حول العالم وأضافوا لحركتهم رقما يدل على بلدهم، وهو رمز الهاتف الدولي الخاص بالمغرب 212.
مرت أيام قلائل وحدث ما حدث من عنف في بعض المدن كان يمكن تجنبه؛ وعوض الحوار كان الصمت هو الاختيار الأسوء لمعالجة مطالب المحتجين؛ كانت هناك بعض المناشادات من بعض الخيرين في بلدنا للحركة الاحتجاجية بالتعقل ونبذ العنف، وللدولة بتجنب المقاربة الأمنية والمسارعة لفتح باب الحوار والاستجابة للمطالب المشروعة. وفي هذه الأجواء، التحقت بمكان احتجاج شباب الحركة، ووسط حشد كبير من الشباب الذين كانوا يهتفون ضد الفساد ويعبرون عن مطالب اجتماعية لا اختلاف حول طبيعتها، حاولت أن أرصد مختلف مظاهر الاحتجاج والوقوف عن كثب على تركيبة المشاركين في الاحتجاج تحت اسم حركة جيل زاي، وعلى طريقة الاحتجاج والشعارات التي يرفعونها والمطالب التي خرجوا من أجلها. وصلت الى المكان المعلن عنه قبيل الموعد المقرر، لكني لم أجد هناك غير نساء ورجال الأمن وقوات مكافحة الشغب؛ كان الموعد في 18:00 لكن المحتجين لم يحضروا إلا بعد مرور ساعة تقريبا. لم يتجمعوا ويرتبوا وقفتهم، بل أطلقوا شعارات إيذانا بتجمعهم تحت أعين الأمن وبدأ المشاركون يفدون إلى المكان مما يعني أن لهم حسابا لتفادي الوقوع في قبضة الأمن. تشكلت دائرة الوقفة الاحتجاجية بطريقة عفوية خالية من أي حس تنظيمي، والتحق بها من وصل متأخرا بينما بقيت عناصر الأمن في مكانها متأهبة لأي طارئ. سرني أن الأمن لم يتدخل، وفهمت بأن هناك توجها ما لا يريد تعميق الاحتقان الذي سببته الاعتقالات وأحداث العنف والعنف المتبادل في أماكن أخرى من المملكة.
لاحظت في البداية وبسهولة بأن الحشد كان متباينا في تركيبته العمرية، وبالتبع متباينا في مؤهلاته الفكرية والتأطيرية، وهو ما يخلق صعوبات كبيرة في التأطير والاحتواء، ويعكس غياب أي أثر للتنشئة وسط المؤسسات الحزبية والنقابية والمدنية الفاعلة في المجتمع.
كانت هناك فئة ـ لنسميها قائدة لانها كانت تهيمن على الشعارات وتحتل المركز من الحشد، وهي فئة شابة تتصدر الحديث مع وسائل الاعلام، وتشارك في الاحتجاج برزانة ظاهرة، وفئة أخرى تبدو “طائشة” بملامح الذين يتعاطون المخدارت، وفئة ثالثة تمثل القاصرين أعمارهم دون السادسة عشر.
استمرت الوقفة حوالي 40 دقيقة وتحولت الى مسيرة نحو ساحة الأمم، كان انطلاق المسيرة عشوائيا مصحوبا بالشعارات والتصفير والاندفاع السريع؛ حاولت ان أكون بالقرب من مقدمة المسيرة لكني لم أستطع إذ تحولت بعد قليل من انطلاقها الى سباق جماعي، جري وترديد لاغاني الالتراس وتصفير، ورقص على طريقة جمهور الملاعب الرياضية. تغير انطباعي الأول حين رأيت الشباب يركض من غير داع؛ كان تخوفي هو أن السلوك الجماعي المندفع يخلق أجواء من الاثارة قد تدفع باتجاه الانفلات وارتكاب الحماقات التي قد ينخرط فيها من يبدو عاقلا تحت التأثير النفسي للحالة التي تكون عليها الحشود.
لكن رغم تخوفي لم يحدث أي انزلاق، حاولت الحديث مع بعض المشاركين وفهمت منهم بأن نوعية الحضور تغيرت بعد اليوم الأول، وقيل لي بأن الذين حضورا في اليوم الأول كانوا “بعْقَلْهُم”، أي ناضجين ولكن الشرطة لم تحسن التعامل معهم؛ وطبعا كنت قد رأيت بعض اللقطات المصورة من ذلك اليوم. وعند وصولنا لساحة الأمم لاحظت بأن الحشد منقسم إلى تجمعات متداخلة ترفع شعارات مختلفة في نفس الوقت ربما لأنهم لا يتوفرون على مكبرات الصوت التي تسمح بمخاطبة الجميع من مصدر واحد.
كان حضور وسائل الاعلام لافتا، وكان الاقبال عليها أشد إثارة من وجودها؛ رأيت بعضهم يطلبون الإدلاء بتصريحات مرددين: “صوتنا خصو يوصل للمسؤولين، واحنا مواطنين كنطالبوا بحقنا وما عدنا علاش نخافوا”؛ ورأيت أيضا من المحسوبين على الإعلام من يفسح المجال للقاصرين للحديث عن مشاركتهم في الاحتجاج؛
ومنذ البداية استمعت الى شعارات متعددة أهمها: “الشعب يريد اسقاط الفساد”، “علاش جينا واحتجينا الصحة لي بغينا”، “حرية كرامة عدالة اجتماعية”، “سلمية سلمية”، بالاضافة الى أغاني الالتراس المعروفة التي تثير مسألة الحگرة وفساد المسؤولين، و”الحرية للزفزافي”؛ لكن الذي أثار انتباهي أكثر شعارات تقول: “ما بغينا كأس العالم بغينا الصحة والتعليم”، “باركا من البوليس زيدونا في المدارس”، و”عاش الشعب عاش، المغاربة ماشي أوباش”.. هذه الشعارات مثيرة للاهتمام حقا ليس لأنها ذات مضمون سياسي ولكن لأنها تعكس حالة من الشعور بالتخلي عن المطالب الاجتماعية الاساسية للشعب وتكريس مغرب السرعتين الذي قال ملك البلاد بأنه لا مكان له في مغرب اليوم. فالشعار الذي يثير مسألة الاعتراض على تنظيم كأس العالم والمطالبة في مقابل ذلك بالصحة والتعليم يشير إلى أن هذه المطالب الاجتماعية ملحة جدا لدى هذه الفئة ولدى غيرها بدون شك، وتأجيلها يعني تأجيج التوترات الاجتماعية ورفع درجة عدم الثقة في المؤسسات؛ ويظهر ذلك في أن الفئة التي تردد الشعار بقوة هي فئة تجد نفسها موضوعيا في عالم كرة القدم الذي يستأثر باهتمامها إلى حد كبير فضلا عن أن منهم من ينتمي الى شريحة الالتراس أو الجمهور الذي يتابع مباريات كرة القدم داخل الملاعب.
فأن يشعر جيل من الشباب متشبع بالثقافة الكروية ومتعلق بعالم كرة القدم بأن هناك أولوية أخرى غير تنظيم كأس العالم يجب أن تكون في صدارة الأولويات معناه أن هذا الجيل يعيش تجربة المعاناة اليومية مع الخدمات الاجتماعية كغيره من الأجيال التي تشاركه الحياة لعله يحصل على حق بديهي: الحق في الصحة والحق في التعليم بما يليق بالمواطن المغربي في بلده؛ فلا أحد يستطيع الهروب من الواقع مهما ظن أنه مفارقه؛ ومخطئ من يظن أن الجيل الذي ارتبط بالعالم الافتراضي واتخذ من الألعاب الالكترونية فضاء للمتعة أو الهروب من الواقع غير مهتم بما يجري في واقعه؛ بل إن الحقيقة هي أن هذا الذي يبدو شاردا عن الواقع تكون صمته أقوى حين يصاحب والدته الى المستشفى ولا يجد شيئا يطمئنه من لحظة وصوله. أضف إلى ذلك أن هذا الجيل لا يكف عن المقارنات بين المغرب وبين الدول الأخرى خاصة الأوروبية منها فيما يتعلق بالصحة والتعليم والكرامة والخدمات الأساسية عموما.
أما الشعار الذي يفيد ضرورة الحد من أعداد الشرطة فشير إلى أن المقاربة الأمنية طاغية سواء في تعامل الدولة مع الاحتجاجات خوفا من تعاظمها او في التضييق على الحريات بشكل عام.. وبدلا من الزيادة في أعداد الشرطة التي لن تحل المشكلة فإن الاستثمار في التعليم الجيد يغني عن ذلك ويضمن مستقبلا أفضل للمغاربة؛ والملاحظ من خلال الاحتجاجات التي عرفها المغرب أن الدولة ما زالت لديها مخاوف غير مبررة تدفعها للتصرف بطريقة تعسفية دون بذل الوسع في معرفة حقيقة نوايا الشارع المحتج؛ ولذلك تقع في أخطاء كارثية في استخدام القوة القاهرة التي تحتكرها.
وكان أكثر الشعارات إثارة لمن يتابع ساحات الاحتجاج هو الشعار الذي يهتف للشعب بالحياة وينفي عنه وصم الاوباش؛ وهذا الشعار له دلالة تاريخية قوية ارتبطت بعلاقة الحسن الثاني رحمه الله ببعض مدن الشمال في سياق تاريخي أصبح من الماضي لكن الوصم على ما يبدو بقي عصيا على الخضوع لعملية الطي ضمن صفحة الاحداث التي أنتجته. وأعتقد أن السبب في إطالة أمد حياة وصم الأوباش هو الشعور بالحكرة والمس بالكرامة من خلال تردي الأوضاع في القطاعات التي تقدم الخدمة الاجتماعية للمواطن كالصحة والتعليم والعدالة.
والملفت للنظر في احتجاجات حركة جيل زاي التي لم تتوقف منذ انطلاقها هو أنها تشهد تطورا على مستوى النقاش وإدارة الاحتجاج وافراز قيادة توجيهية تشرف على صياغة مطالب الحركة وترشيد أدائها بعيدا عن الاستغلال والسقوط في دائرة العنف؛ وقد بلورت بالفعل مطالب معززة بأساليب الضغط الممكنة علاوة على الاحتجاج منها أسلوب المقاطعة الاقتصادية.
وفي انتظار ما سيؤول إليه الأمر بعد خطاب الملك في افتتاح البرلمان يوم الجمعة، تبقى حركة جيل زاي إحدى الحركات الاحتجاجية التي تؤكد على أن الاحتجاج كوسيلة للضغط تؤتي أكلها عندما تكون بالقوة اللازمة في مواجهة قوى سياسية فاسدة لا تهمها سوى المصالح الشخصية التي تراكمها بينما صرخات الشعب لا يسمعها أحد حتى تنفجر في شكل احتجاجات واسعة تضطرهم الى البحث عن حلول استثنائية كان يمكن العمل بها في اريحية تامة لو أنهم كانوا جديرين بخدمة هذا الشعب الطيب.