فيصل الأمين البقالي
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله
ودعنا منذ بضعة أيام رجلاً من رجالات طنجة والمغرب؛ ولقد يكون الحديث عن الوداع والفقد في سياق ما نحن فيه من هول الفقد وفجائع الموت والتقتيل والدمار في أرض الرباط ضرباً من اللغو مهما عزّ علينا من فقدناه؛ ولكن الأستاذ والمناضل والمثقف والمربي مولاي مصطفى أقبيب رحمه الله تعالى وأحسن إليه، والحديث عنه ليس هجينا في هذا السياق، فهو ابن النضال وربيب الميادين وصاحب المواقف .. فإذن لا عيب ولا هجنة في وداعه وتأبينه بما يليق بمثله ..
ولقد شيّعناه في جنازة مهيبة حاشدة تليق به بل وتشبهه كما تشبه سيرته .. فبعد أن صلينا عليه الظهر في مسجد الزاوية التي أحبّها وأحبَّ شيخَها وأحبَّته وأحبَّه شيخُها، الزاوية المعروفة في طنجة بزاوية القاضي بحي كاسطية .. سرنا خلف موكبه في جنازة تشبهه وتشبه سيرته .. نعم .. فقد امتلأت جنبات الحي المتاخم للمسجد بعد فاض بمن فيه .. فكأنما قد حضر “كل الناس” .. ولقد التقيت بمن لم ألتق به منذ سنوات ولا أعرف كيف ألقاهم وأين، حتى وجدتني في الصف إلى جانب أحدهم، أو على الناصية المتاخمة للمسجد أو في الطريق التي غصّت بالسيارات نحو مقبرة المجاهدين التي تحلق فيها حوله مثواه محبوه وتلامذته وأبناء أسرته وجيرانه وأصدقاؤها وزملاؤه في العمل ورفاقه في النضال وعلى رأسهم الأستاذ المحامي والمناضل عبد الله الزايدي الذي ألقى في ختام مراسيم الدفن كلمة بليغة وددت لو تم تسجيلها .. هناك تجد مناضلين ونبلاء وأفاضل من كل تيار، ومن مختلف المشارب والحساسيات السياسية والقطاعات المهنية .. تجد اليساري، والإسلامي، ورجل التعليم، والصديق، والجار القديم للأستاذ والجديد، وابن العمومة .. وغيرهم .. كل هؤلاء فرّقت بينهم مشاربهم ومذاهبهم وانتماءاتهم ومهنهم وتخصصاتهم، وألَّفَ بينهم الحبُّ والعرفان والاحترام لشخص أحبَّ الناسَ وأحبَّهُ الناس .. وسار فيهم ما أمكنه حالُه السيرةَ الحسنة، فكانوا في يوم وداعه أوفياء له عارفين بحقه معترفين بفضله .. رحمه الله وأحسن إليه وأكرم مثواه .. آمين
ولقد كان رحمه الله مناضلا سياسيا وحقوقيا، ومثقفا عضويا متعدّد الاهتمامات عابرا للمشارب والنزعات .. يجد نفسَه مع رفيقه اليساري لسبق انتماء وحلم نضالي مشترك .. حلم استمر فيه ومعه إلى آخر حياته؛ رغم ملاحظاته على رفاقه وعلى بعض اختياراتهم، وامتعاضه أحيانا من بعض المظاهر التي غزت اليسار المغربي، يصرّح بها حينا في حرقة الأب الحنون والأخ الغيور، ويلمّح إليها حينا آخر في أدب ومراعاة جُبِل عليهما .. ولكنه ظل في كل ذلكم على وفاءه لهم ولأحلامه الشبابية لأنها ترتبط بأطهر ما في الإنسان : التطلع إلى الحرية والكرامة والانعتاق .. لقد ظل وفيا على ما عبَّر عنه “روجي غارودي” رحمه الله أمام المحكمة الفرنسية وهو في الثمانينات من العمر: “إنه لمن دواعي سروري أن أظل وأنا في الثمانين من عمري وفيا لأحلامي عندما كنت في سن العشرين” ! أو كما قال أحمد الصافي النجفي رحمه الله
عمري بروحي لا بِعَدِّ سِنيني .. لأسخرَنَّ غداً من التِّسعينِ
عُمري إلى السبعين يركُضُ مُسْرِعًا .. والرّوحُ ثابِتةٌ على العشرين
فقد كان يقدّر – كما فهمت منه – بأنّ الابتعاد لن يصلح ما يلاحظه على رفاقه مما لا يتفق معه، ولن يضيف إلى المشهد السياسي غير قيل وقال هو في غنى عنه .. ناهيك عن إلحاق الألم برفاق أسّس معهم تجربة نضالية معتبرة ومحترمة ومتميزة، وهو الذي مَخَرَ بأصالته وصدقه تيَّار اليسار طُرّاً، وعاش وعايش كثيرا من تجاربه من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى أن أناخ عند حزب الطليعة، إلى جانب الرجل الذي أحبّه بصدق (وإنَّه لرجل يحَبّ من كل ذي صدق ونبل!) .. أقصد الأستاذ النقيب والمناضل الشريف عبد الرحمن بنعمرو حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية والبركة في العمر .. وقد حضرتُ معه مرَّةً قراءةً قدَّمها في غرفة التجارة والصناعة بطنجة لكتاب “من أجل ذاكرة عادلة” للنقيب عبد الرحمن بنعمرو؛ فتناول مع الكتاب سيرة النقيب وذكرياته فرأيتُ بعيني هذه العلاقة المنبنية على الوفاء والاحترام والحب .. وجلسنا بعدها (أو غداتها) في مقهى فحدثني بألم وحب عن هذا الرجل الفذ؛ وأذكر أنه قد خنقته العبرات وهو يحكي لي عن بعض ما واجهه السيد النقيب من ابتلاءات، بل حتى من بعض الرفاق من ذوي النظرة التنظيموية الضيقة، من الذين لا يكاد يخلو منهم تنظيم، ولا تكاد تنجو منهم تجربة !
يَجِدُ أستاذُنا نفسه أيضا مع الإسلامي، لعمق أصالته ومتانة محتدِه الديني الإسلامي، وكيف لا وهو ابن الفقيه أقبيب إمام جامع المصلى؟ وكيف لا وهو المحب للقرآن الذي قلَّما قُرِئ الذكر الحكيم في حضرته ولم تخنقه العبرات؟ حتى لقد كان يحلو لي أن أشاكسه أحيانا إذا آنست منه لحظةَ صفاء ولين جانب أن أقول له : “أنت والوالد ديالي غيرْ عايْشَه دْميعَه، جبالة وقلبكم طايْب” .. فكان يضحك رغما عنه رحمه الله .. وكيف لا يجد نفسه مع الإسلامي أيضا، وما تطلبه الحركة الإسلامية عموما هو ما يطلبُه اليسار – مع الفارق طبعا – ولكنهم جميعا إنما خرجوا طلباً للكرامة والعزة والحرية والانعتاق، وإن اختلفت بهم السبل والمنازع .. ولقد كانت له ملاحظاته على الحركة الإسلامية، بل وعلى الحركة التي أنتمي إليها .. وكنتُ أوافقه في بعضه وأتحفظ على البعض الآخر .. وأستفيد في الحالين من ملاحظاته وتقييماته وتقويماته ..
وكان يجد نفسه مع أسرة التعليم .. ولا غرو؛ فهو الذي أمضى في هذا السلك عمرَه أستاذا متدربا، فأستاذا ممارسا، فموقوفا، فمطرودا، فمُعادا معزَّزاً مكرَّما، ولم يزل يترقّى حتى صار مفتشا لمادة الفلسفة في إقليم طنجة .. وفي كلٍّ كان موظَّفا ذا ضمير واجتهاد، وجِدٍّ وإعداد، وتواضُع لأهل العلم واستمداد، وكان المفتش الذي عرفته المدارس وعرفه المُربّون مجتهدا حادبا، متفهِّماً حازِماً حتى أحيل على التقاعد بعد استيفاء مدته كاملة رحمه الله ..
كان يجد نفسه مع الشباب في المخيمات الكشفية ولا سيما الكشفية الحسنية، كما تجده في مقرات الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية .. يمضي بوسامته المميزة وبسمته الرائعة التي تنقلب وجوما وقورا وأحيانا غضبا مَهيبا حين تثور ثائرته في أمر يظهر له بأن إخلالا مّا قد وقع فيما يراه معلوما بالضرورة من العقل والأخلاق والواجب .. فتثقل أجفانه ويتجهَّم وجهُه الوسيم حتى يصير الحمل الوديع نمرا تُحذَرُ وثبَتُه، وأسدا تُخشى زأرته ..
وكان يجد نفسه بين أهل التصوف وأبناء الزوايا .. ولا عجب فهو الجبلي الودراسي الصميم، وكم كنت أدَّخرُه ليوم أتشرف فيه بجولة معه بين قبائل ومناطق جبالة وقراها ومداشرها .. فهو العارف بها قبيلة قبيلة ومدشرا مدشرا .. وكم حدثني عن قبائلنا الجبلية وطبائعها وثقافاتها وما عُرِفَت به كل واحدة في خصوصياتها الطبيعية والتاريخية وفي طبائع أهلها وما يروي في ذلك من جد وهزل .. وقد توسعت قراءاته في التصوف بمدارسة المختلفة، وكثرت مشاركاته العلمية والفكرية في التظاهرات الثقافية التي نظمت في هذا الإطار .. ولم يزل كذلك حتى صار من رواد زاوية القاضي حين انتقل منذ سنوات للسكن بجوار أصهاره الكرام بحي كاسطية قبل أن ينتقل إلى بيته العامر في حي جامع المقراع على الجانب الشرقي للجبل الكبير بطنجة .. منزلٌ هو لوحده فصل من فصول النضال والمعاناة والصبر في حياة مولاي مصطفى .. إذ لم يهنأ بسكناه حتى رأى النجوم في عز الظهيرة .. وقاد “معركته” تلك بنفس نضالي عال يرخي الحبل حينا ويشده حينا ويشتكي إلى حد اليأس حينا ويعزم إلى درجة اليقين بالنصر حينا .. وهو في كل ذلك دائب على ما عاش به يَنُوسُ بين منتديات الفكر والثقافة، وميادين النضال والسياسة، ومجالات العمل الاجتماعي والخيري وخدمة الناس، حتى لقد كان يعزُّ عليَّ ذلك وهو الذي يفدح عنده مرض السكري حتى يغمى عليه أحيانا، أو يلزمه البيت فلا يكاد يبرَحُه .. وقد كان يُعلِّقُ بقولةٍ لا بدَّ أن كثيرا من جلسائه سمعوها منه مثلي، فيقول باسما هازئا من حاله ولكن في ألم : « كانت الوالدة رحمها الله تقول لي وهي لا تكاد تراني أيام النضال فيما مضى : آوليدي تمارة تفتش عنك وأحيانا أنت من يفتش عنها” ! ولقد كانت الصلاة عليه في زاوية القاضي التي لم يزل من روادها ومن محبي شيخها ومريديه .. وكان الشيخ يحبه أيضا ويجله ويعرف قدره .. فصفى الود بينهما وامتد حبله في متانة وبركة ..
مولاي مصطفى رجل المبادئ والتوافقات .. المبادئ في غيرما غلو والتوفقات في غيرما إسفاف .. بل إن هذا النفس التوفيقي (لا التلفيقي) والتجميعي نجده له أثرا حتى حين يكتب .. فقد كان كثير الولع في بعض كتاباته بأن يرصِّعَها بكلمة “فصل المقال” في إحالة واستحضار واعيين لكتاب ابن رشد الحفيد “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” .. وله مقالات عديدة على هذا المنوال .. كتابات صح خوفي وتوجسي من أنها لن تجمع في حياته (ولعلها أن تجمع الآن بعد وفاته) .. غير أن خوفي الأكبر من عدم كتابة مذكراته .. ولقد كان ذا ذاكرة قوية رائعة .. وكنت أعاتبه وأنا في مقام ابنه أو تلميذه كلما حضرنا توقيع كتابا في هذا الباب ككتاب النقيب عبد الرحمن بنعمرو وكتاب “العصفور” لرفيقه عبد الله الزايدي) .. فكنت أكثر من العتاب حتى ليخيل إلي أنه سيلزمني حدي بنهرة ينتفض بها عليّ .. ولكن صدق توجسي مع الأسف .. رغم أنه بشرني منذ عامين ونيف أنه قد شرع في الكتابة جامعا مقالاته المتفرقة وراقما بعض مذكراته وأنه لا يكاد ينتهي من التزاماته “النضالية” (وضعتها بين مزدوجتين لأنه كان يقولها بمعني عقابيل النضال التي جعلت لديه معارف يقصدونه رغم أن الدنيا تغيرت وتغير الموظفون ولم يعد لديه من يعرفه ولم يعد يعرف كثيرا من الأمور التي تغيرت طرائقها ومساطرها .. رحمه الله وتقبل منه .. فكان يقبل حياء ويحمل نفسه فوق ما يطيق) .. وكنتُ أوافقه بعد حين مجالمة ومصانعة ولكن توجسي لا يحيد لما سبق لي أن عشته مع غيره ممن سبقونا إلى الدار الآخرة فمضوا وقد تركوا في نفوسنا آثارا كريمة ولكن الذاكرة مهما قويت فمصيرها إلى الضعف ولذلك شرفت الكتابة وارتفع قدرها ..
المقام ليس مقام تطويل .. ولكن لا يمكن طيُّ هذه التدوينة دون الحديث عن الوفاء في حياة أستاذنا مصطفى أقبيب رحمه الله .. غير أن موضوع الوفاء لوحده قد يطول به المقام .. ولذلكم لن أتحدث إلا عن وفاءه لزوجته الكريمة التي سبقته إلى جوار الله أمِّ عمر .. وهي أستاذة مادة الفلسفة السيدةُ الشريفةُ الفاضلةُ الخُلُقِ، الطويلةُ الصمت، الطيبةُ الحديث، الرقيقةُ الحاشيةِ، السيدة خديجة وهبي العروسي .. التي كانت تجسيدا عمليا للسيدة المسلمة القانتة والمثقفة الواعية في تواضعها لزوجها وهو تواضع كريم عال لأنه تواضع المثل لمثله والصنو لصنوه .. فلما سبق إليها قضاء الله أرتج على مولاي مصطفى ولم يعرف كيف يكون بعدها ولا يذكرها إلا بالدمع والعبرة ثم إنه أسلم نفسه لصمت متطاول وشرود حتى لقد تظن به العلة في عقله وتفكيره، وما به من علة إلا الوفاء لحبيبته ورفيقة دربه رضي الله عنهما .. ولقد كان يحدثني كثيرا عن خلجات نفسه حتى قبل أن يقعدها المرض وتفدح لديها العلة .. وكان رحمه الله يعجب ولا ينقضي عجبه من قنوتها وكثرة هضمها لنفسها وتواضعها وكان يقول لي “السيدة أستاذة مادة الفلسفة في التعليم الثانوي، وهي دائما تتوارى وتقلل من شأن نفسها حتى في مجالس العائلة بين النساء!” ولذلك كان يحبها ويجلها ويقدرها.. وكان وفيا لها في حياتها كما يفي الصالحون لأزواجهم، وكما يجب أن يفي العشير لعشيره والشريك لشريكه .. حتى ليخيل إلي أنه كان يحفظ غيبتها مع نفسه .. فرحمهما الله تعالى وأسكنهما فسيح الحنان ورزقهما جوار النبي العدنان -صلى الله عليه وسلم- وآنس وحشتهما ورحم غربتهما وألحقنا بهما مسلمين تائبين طائعين، وبارك في ابنتهما المهندسة “مَها” وولدهما البار المرضي الأستاذ “عمر” .. آمين والحمد لله رب العالمين