مقالات الرأي
خديجة الشرقاوي.. عذراً، لقد كانت مجرد خدعة… ! هل تحولت المحاكم المغربية إلى أداة لإسكات الصحفيين والرقابة على رأيهم؟

خديجة الشرقاوي
في بلدٍ يتسم بثلاثية “المقدسات”- الملكية، الإسلام، والوحدة الترابية – كخطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، قد يظن البعض أن أي موضوع خارج هذه الدائرة مفتوح للنقاش والانتقاد. لكن الواقع يظهر خلاف ذلك. فقد أقرّ دستور المملكة المغربية سنة2011 بحرية الصحافة، إلا أن الممارسة تكشف عن قيود مستمرة تعترض طريق الصحفيين الذين يحاولون تسليط الضوء على قضايا حساسة.
هل هي نصيحة أم فخ؟
العبارة الشهيرة “اكتب وقَيِّس”، رغم ما تبدو عليه من دعوة للحذر وعدم تجاوز الخطوط الحمراء، هي في الواقع فخٌ مموه يُطلقه المقربون، سواء بحسن نية أو بسوء نية، لأولئك الذين يجرؤون على استخدام أقلامهم لكشف الحقيقة. فهل هذه النصيحة موجهة لمجرم يعبث بأرواح الناس وأموالهم؟ أم لسارق ينهب رزق الفقراء؟ أم لقاتل يهدد الأمن؟ بالطبع لا! إنها موجهة للصحفي الذي يكتب، الذي يجرؤ على السؤال، حتى لو لم يكن في كتاباته أي مساس بالمقدسات أو خرقٌ للخطوط المرسومة.لكن، لماذا يُطالَب الصحفي بـ “القياس”؟ وما هي عقوبة من يمتنع؟
الصحفي الذي”قَيَّس”ولم ينجُ، حتى الذين سعوا إلى العمل ضمن الهوامش المتاحة لم يسلموا من التضييق. فقد أدرج تقرير منظمة مراسلون بلا حدود لعام 2023 المغرب ضمن الدول التي تواجه تحديات في حرية الصحافة، مشيرًا إلى تعرض الصحفيين لممارسات تشمل الملاحقة القضائية والتهديدات وحجب المعلومات.
قضية الصحفي توفيق بوعشرين مؤسس صحيفة أخبار اليوم، الذي تناول في مقالاته تداخل المال بالسياسة وسلطة بعض الشخصيات النافذة، انتهت بحكم قضائي بالسجن لمدة 15 عامًا بتهمة أثارت جدلاً واسعًا. أما سليمان الريسوني، فقد وجد نفسه في مواجهة اتهامات مرتبطة بـ “التحرش”، بناءً على تدوينة غامضة لمجهول، وحُكم عليه بـ 6 سنوات. وهو ما اعتبرته منظمات حقوقية قضية ذات دوافع سياسية تهدف إلى إسكات الصحافة المستقلة في المغرب.
عمر الراضي، الذي كشف عن ملفات فساد واستغلال النفوذ، فقد تحول من صحفي استقصائي إلى متهم بـ “التخابر” و”الاغتصاب”، وانتهى به المطاف عام 2020 خلف القضبان لـ 5 سنوات. بينما اعتبرته العديد من المنظمات الحقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” و “مراسلون بلا حدود” جزءًا من حملة للحد من حرية الصحافة وتقييد الصحفيين الذين ينتقدون الحكومة، فيما واجه رضوان القسطيط وحميد المهداوي رئيس تحرير موقع بديل،مسارات قضائية مختلفة، لكن النتيجة كانت واحدة: إسكات أصوات حاولت نقل قضايا ذات طابع حساس.
بينما تظهر العدالة صرامة تجاه الصحفيين، فإنها لا تبدو بنفس الحزم مع الذين ضربوا ولم يقيسوا… ونجوا! من قضايا الفساد المالي والجرائم الكبرى. ففي الوقت الذي يُلاحَق فيه الصحفي لمجرد نشره معلومات، ينجو مسؤولون رغم ضلوعهم في اختفاء مليارات من المال العام،إذ تلاشت4500 مليار سنتيم في “المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم”، دون أن يحاسب أحد من المسؤولين الكبار.و11500 مليار سنتيم بدّدها مدير مؤسسة الضمان الاجتماعي، وحُكم عليه بأربع سنوات موقوفة التنفيذ!،أما الملياردير المتهم بالاتجار بالبشر، وهتك العرض بالعنف، فقد حُكم عليه بسنة واحدة فقط، منها 8 أشهر نافذة!
في ظل هذه الوقائع، تتجدد التساؤلات حول مدى توازن العدالة، فبينما يلاحق الصحفيون بقوة القانون، يعامل بعض المتورطين في قضايا الفساد والجرائم الكبرى بمعايير مختلفة، وكأن المحاسبة تُطبق بميزانين! ،وهل باتت المحاكم أداة لمعاقبة الصحفيين، أم أن الصحافة الاستقصائية أصبحت خطرًا على من يحاول كشف المستور؟، فبحسب تقرير فريدوم هاوس لعام 2024، صنف المغرب ضمن الدول “المحرومة جزئيًا” من الحرية، حيث حصل على 37 نقطة من أصل 100. أما تقرير مراسلون بلا حدود، فقد أبرز تصاعد القيود المفروضة على الصحفيين، لا سيما أولئك الذين يتناولون مواضيع سياسية أو ينتقدون السلطة.
•حالات إنذارية للضغط على الصحافة: من المهداوي إلى العمراني
في ظل استمرار محاكمات الصحفيين في المغرب، تتجدد الأسئلة حول واقع حرية التعبير، وحدود الحماية القانونية للصحفيين أمام الملاحقات القضائية. الحكم الأخير الصادر عن المحكمة الابتدائية بالرباط ضد الصحفي حميد المهداوي، مدير موقع بديل، يعكس استمرار التحديات التي تواجه الجسم الصحفي في البلاد.
قضت المحكمة في 11 نوفمبر 2024 بإدانة المهداوي بسنة ونصف حبسًا نافذًا، إلى جانب تغريمه 150 مليون سنتيم، بناءً على شكاية تقدم بها وزير العدل عبد اللطيف وهبي، بتهم تتعلق بـ”بث وتوزيع ادعاءات كاذبة، والتشهير،والسب العلني”. وذلك على خلفية نشر الصحافي المذكور لتسجيل مصور تحدث فيه عن حصول الوزير على سيارة فاخرة بثمن باهظ كأتعاب منحت له من طرف سيدة كان ينوب عنها ومنحته “الشيك” الذي دفع به ثمن المركبة “الفخمة” لإحدى الوكالات، كما ألمح إلى اتهام الوزير بتهربه من أداء الضرائب ،وتوجهت سهام النقد إلى وزير العدل الذي اتهم من طرف عدد من المدونين بـ”ضرب حرية التعبير عرض الحائط”.
•حرية التعبير أم كابوس الملاحقات؟
هذا الحكم يثير تساؤلات ملحة حول مدى التوازن بين حرية الصحافة واحترام القانون. فبينما تؤكد السلطات أن القضاء مستقل، وأن الصحافة ليست فوق القانون، يرى كثيرون أن المحاكمات المتكررة للصحفيين أصبحت أداة لتخويف الأصوات المستقلة، ووسيلة لضبط المشهد الإعلامي في حدود معينة.يطرح الحكم ضد المهداوي قضية أكبر: هل يمكن لصحفي انتقاد مسؤول حكومي دون أن يجد نفسه خلف القضبان أو يواجه غرامات ثقيلة؟ في دولة تنص على حرية التعبير في دستورها، يفترض أن تكون الصحافة سلطة رابعة لا متهمًا دائمًا في قاعات المحاكم.
وفي خطوة جديدة تهدد حرية الصحافة في المغرب، استدعت اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون المجلس الوطني للصحافة الصحفي حميد المهداوي لجلسة استماع ،على خلفية شكاية قُدمت ضده. ورغم أن هذه الخطوة قد تبدو للوهلة الأولى كإجراء روتيني، إلا أنها تُعد جزءًا من معركة أوسع تُخاض ضد الصحافة المستقلة في المغرب، مع تساؤلات مشروعة حول النوايا الحقيقية وراء هذه التحركات.
ما يثير القلق هو التوقيت الذي تم فيه الاستدعاء،يوم الأربعاء 19مارس2025 والذي يأتي بعد مواجهة حادة بين المهداوي ورئيس اللجنة المؤقتة يونس مجاهد. فالمهداوي،أشار في موقعه بديل،إلى أن الهجمات المستمرة ضده تهدف إلى إسكات صوته للأبد. هذه الهجمات تأتي في وقت حساس، حيث يعاني المهداوي من سلسلة من القضايا القضائية التي قد تؤدي إلى سجنه، نتيجة شكاوى تم تقديمها من وزير العدل.
لكن المثير للانتباه هو أن الاستدعاء لم يكن يتعلق فقط بمقال نشره مجاهد, يدافع فيه عن مبدأ الدفاع عن الشرف في الصحافة، بل يبدو أن هذه الحادثة تمثل جزءًا من محاولة أكثر شمولًا للضغط على الصحفيين المستقلين. المهداوي نفسه لمح إلى أن اللجنة المؤقتة لم تقم بتسليمه البطاقة المهنية الصحفية رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على طلبه، وهو ما يبرز التحديات التي يواجهها الصحفيون في ظل هذا التهميش المتزايد.
ما يحدث الآن ليس مجرد صراع بين شخصين أو بين صحفي ومسؤول، بل هو انعكاس لمشكلة أعمق تتعلق بكيفية تعامل السلطات مع الصحافة المستقلة. فنحن هنا لا نتحدث عن مخالفات مهنية أو تجاوزات قانونية، بل عن حملة منظمة للحد من قدرة الصحفيين على ممارسة عملهم بحرية. وهذه ليست حالة فردية، بل هي جزء من إستراتيجية أوسع تهدف إلى تقليص مساحة التعبير الحر في البلاد.
ولم يكن المهداوي الصحافي الوحيد الذي استهدفه الوزير، فسرعان ما لحقه الصحافي هشام العمراني،مدير موقع “آشكاين”،الذي استُدعي للمحاكمة في الجلسة التي حدد تاريخها يوم 21 كانون الثاني/ يناير 2025. بتهم مشابهة. ووفقًا لمصادر قضائية،فإن التهم الموجهة للعمراني تتعلق بنشره معلومات تمس الوزير وشخصيات أخرى، وهو ما اعتبره الوزير تشهيرًا يستوجب المتابعة القانونية.
هذا المشهد يثير تساؤلات جوهرية: هل باتت حرية الصحافة في المغرب محاصرة بدعاوى التشهير والقذف؟ أم أن القانون يُستخدم كأداة لتقييد الأصوات الناقدة؟
هل وزير العدل المغربي ضد الصحافة ؟
وفق القانون، لكل مواطن، بمن فيهم المسؤولون الحكوميون، الحق في اللجوء إلى القضاء في حال تعرضهم للتشهير أو القذف. لكن عندما يتحول وزير العدل، وهو المسؤول الأول عن ضمان استقلالية القضاء وحماية الحريات، إلى أحد أكثر المسؤولين رفعًا للدعاوى القضائية ضد الصحافيين، فإن الأمر يفتح الباب أمام اتهامات بتوظيف القانون لتكميم الأفواه.
المفارقة في هذه القضايا أن المسؤولين الحكوميين ومنهم وزير العدل عبد اللطيف وهبي، في مناسبات عديدة، يؤكدون على احترامهم لحرية الصحافة واستقلالية القضاء، بل ويدعون الصحافيين إلى ممارسة دورهم في مراقبة الشأن العام وكشف الفساد. غير أن الواقع يشير إلى تزايد عدد المتابعات القضائية ضد الصحافيين، خاصة أولئك الذين يتناولون قضايا حساسة مثل الفساد والامتيازات السياسية.
لم تكن ملاحقة الصحافيين بالقانون إلا جزءًا من مشهد أوسع من التضييق على حرية التعبير، حيث بدأت الملاحقات لوزير العدل، مع بروز قضية أخرى تتعلق بما عرف بـ**”فضيحة امتحان المحاماة”**، التي أثارت غضبًا واسعًا في الأوساط الإعلامية والسياسية.حين تم الإعلان عن نتائج امتحان ولوج مهنة المحاماة لعام 2023، حيث لاحظ العديد من الراسبين والصحفيين ورود أسماء أقارب مسؤولين حكوميين وقضاة ومحامين ،ضمن قائمة الناجحين. ومع تصاعد الجدل، لم تفلح محاولات الوزير وهبي في تبرير الأمر، بل زاد الطين بلة بتصريحات استفزازية اعتبرها البعض “إهانة للطلبة الراسبين”، حيث خرج مئات الطلبة والمحامين إلى الشوارع مطالبين بفتح تحقيق مستقل، بل ذهب البعض إلى حد المطالبة بإقالة الوزير. وزاد الأمر تعقيدًا عندما أثيرت شبهات حول استفادة أحد أبناء الوزير من النجاح في الامتحان، وهو ما لتم تأكيده أو نفيه بشكل قاطع.
هذه الفضيحة سلطت الضوء على واقع الشفافية في المؤسسات المغربية، ودور الصحافة في كشف التجاوزات، وهو ما جعل الصحافيين الذين خاضوا في هذه القضية عرضة للملاحقات القانونية.
وإذا أضفنا إلى هذه الملاحقات إغلاق بعض المواقع الإلكترونية، وتوقيف بعض الصحافيين عن العمل، والضغوط الاقتصادية التي تواجهها الصحافة المستقلة، فإننا نكون أمام مشهد يعكس تراجعًا واضحًا في هامش حرية التعبير.
•أي مستقبل لحرية الصحافة في المغرب؟
إن استمرار الملاحقات القضائية للصحفيين، خصوصًا في قضايا تتعلق بنقد الشخصيات العامة أو كشف قضايا ذات بعد سياسي، يهدد بجعل الصحافة الاستقصائية والصحافة النقدية في المغرب مهنة محفوفة بالمخاطر. فبدل أن ينشغل الصحفيون بإنتاج تحقيقات ذات قيمة، بات كثير منهم يقضي وقته بين المحاكم بحثًا عن براءته.
المشهد الإعلامي المغربي في حاجة إلى إصلاح حقيقي يضمن حماية الصحفيين من المتابعات التعسفية، ويكرس حق المجتمع في الوصول إلى المعلومات دون رقابة مسبقة أو تهديد بالعقاب. فحرية الصحافة ليست امتيازًا يمنح أو يسحب، بل هي ركيزة أساسية لأي ديمقراطية حقيقية.وفي هذا الصدد، اعتبرت تقارير صادرة عن منظمات حقوقية دولية أن مثل هذه القضايا تشكل ضغطًا على حرية الصحافة، وتخلق مناخًا من الرقابة الذاتية لدى الصحافيين، الذين باتوا يخشون أن أي تحقيق صحافي قد ينتهي بهم خلف القضبان.
• صحفي يقظ أم صحفي كسلان؟ مالذي تريده الحكومة المغربية؟
أمام هذا الواقع، يجد الصحفي نفسه أمام خيارين: أن يكون يقظًا أو أن يكون كسلانًا.
الصحفي اليقظ هو الذي يطرح الأسئلة الصحيحة، ويحقق، ويكشف، ويغامر، حتى لو كان الثمن حريته. وقد اختبرت هذا الأمر في تجربتي الشخصية، حيث تعلمت أن الصحفي الذي يختار أن يكون يقظًا قد يواجه تهديدات وعواقب صعبة، يمكن أن يجد نفسه عالقًا في دوامة القضايا القانونية والاتهامات الباطلة.
أما الصحفي الكسلان فهو الذي يكتفي بنقل تصريحات المسؤولين، ويعيد تدوير البيانات الرسمية، ويختبئ خلف عبارات جوفاء عن “المهنية والحياد”، حتى يضمن سلامته. هذا النوع من الصحافة لا يخدم المجتمع، بل يعزز الثقافة السائدة، التي تتغاضى عن الانتهاكات وتمنع الصحفي من أداء دوره الحقيقي.
أنا، الصحفية التي لم تتجاوز بعد عقدها الخامس، شعرت بنفسي جزءًا من هذا المشهد، وخاصة في ظل المحاكمات التي طالت العديد من الصحفيين. لم أكن أتوقع أن يكون القلم الذي لطالما كان سلاحي في مواجهة التحديات، هو نفسه الذي من الممكن أن يجرني إلى المصير الذي يخشاه الجميع.
ماذا يعني أن أكون صحفية في هذه الأوقات؟ هل سأظل أكتب لأحكي للناس ما ينبغي عليهم سماعه، أم أنني سأعيش في دائرةٍ من القلق الدائم؟ قلق من أن كل كلمة أكتبها قد تكون خطًا أحمرا، قد تُفهم على نحو خاطئ، قد تقودني إلى أن أكون هدفًا للحملات الإعلامية أو الاعتقالات. أجد نفسي اليوم في صراع داخلي: هل يجب أن أكتب الحقيقة حتى لو كان الثمن حريتي؟ أم أنني أجبَر على التراجع والموافقة على “القياس” الذي يضمن لي الأمان الشخصي؟
إن الصحفي المغربي يجد نفسه اليوم يقف في مفترق الطرق، حيث يواجه تحديات متزايدة في ممارسة مهنته بكل حرية ومسؤولية. الصحفي الذي يريد أن يبقى يقظًا وملتزمًا بالقيم المهنية يواجه صراعًا مستمرًا بين واجبه المهني وتهديدات النظام. السؤال الذي يطرحه كثيرون: هل يجب أن يتحمل الصحفي هذا العبء الكبير؟ وهل يجب عليه أن يتنازل عن حريته المهنية من أجل أن يظل محافظًا على سلامته الجسدية ؟