مقالات الرأي
فؤاد السعدي يكتب.. نُقطَة نِظَام
ما اجتمع رأي رؤساء الفرق النيابية يوما على قضية مثلما اجتمعوا على التعقيب القوي والشجاع والجريئ لعبد الله بوانو خلال جلسة المساءلة الشهرية، لرئيس الحكومة، يوم الأربعاء العاشر من يونيو الجاري بمجلس النواب، المداخلة التي قلب فيها القيادي بحزب العدالة والتنمية الطاولة على الحكومة وعلى طريقة تدبيرها لأزمة “كورونا” سواء على المستوى الصحي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أكسبته احترام الخصوم وتنويه الحلفاء على السواء، حتى أن البعض منهم وصف الرجل بالسياسي الشجاع الذي لا يخاف لومة لائم في قول الحقيقة حتى وإن كانت قاسية ومكلفة في بعض الأحيان، لأن حاجتنا اليوم في ظل الأزمة التي تعيشها البلاد إلى النقد لا تقل أهمية من حاجتنا إلى البناء، وأن الحكومة التي لديها الرغبة في الإصلاح والتقدم يجب أن تفهم فائدة النقد الموضوعي والبناء. جرأة بوانو التي لا يمكنها أن تقوم بمعزل عن ممارسة النقد الذاتي، كشفت بما لا يدع مجالا للشك عن المنسوب المرتفع للديمقراطية الداخلية لحزب العدالة والتنمية والتي يتم تصريفها عبر مشاركته في تدبير قضايا الشأن العام.
عشر دقائق كانت كافية ليبعثر فيها بوانو أوراق الحكومة، ويقف في صف السواد الأعظم من المغاربة الذين رأوا في قرار تمديد أو تخفيف إجراءات الحجر الصحي نوعا من الإجحاف وسوء التقدير للوضع الصحي للبلاد طالما أن الحالة الوبائية متحكم فيها على حد قول رئيس الحكومة، وهو ما يفسر شيئا من اثنين، إما أن الحكومة لا تتوفر على معطيات كافية تمكنها من اتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب، وإما أن حالة الارتباك والشرود والتردد التي تعيشها على وقعها منذ تسجيل أول حالة إصابة بفيروس “كورونا” يجعلها غير قادرة على تحمل النتائج والتبعات. ولهذا السبب اعتبر القيادي بالعدالة والتنمية تمديد الحجر الصحي للمرة الثالثة غير مفهوم وغير مبرر، اعتبارا لمبدأ التناسب في استعمال السلطة الضبطية والزجرية مع ما يتطلبه الوضع والسياق الوبائي والاقتصادي والاجتماعي الوطني. عشر دقائق كانت كفاية ليعطى فيها بوانو الدروس لكل من يعاني نقصا في منسوب الوطنية، ويعري على عورات تجار المآسي والأزمات ممن ينتصرون للفساد، سواء بإرادتهم الذاتية التي تحركها منافُعهم التفكيرية والمتخيلة البغيضة، أو مُجبرين على ذلك بدافع القوى الخفية المُحركة لأهوائهم المتدفقة ولإراداتهم الهشّة، غير مدركين، أنهم بذلك يقفون ضدّ الوطن، وضدّ الإنسان.
أما بخصوص تغيب الجماعات الترابية عن لجان اليقظة المكلفة بتتبع وتدبير إجراءات حالة الطوارئ الصحية على المستويين الإقليمي والجهوي، فقد بعث عبد الله بوانو باعتباره رئيسا لجماعة مكناس بإشارات بليغة وجب إلتقاطها لفهم الكيفية التي انبطحت بها السلطة السياسة أمام السلطة الإدارية، وسمحت لها باستعمال سلطاتها التنظيمية والأمنية بشكل مكثف وشامل، حتى أصبح معها نجما “القايد” و”المقدم” يتألقان على حساب “المنتخب”من جهة، وعلى حساب الحقوق والحريات من جهة أخرى. فهل تعمدت الإدارة خلال هذه الأزمة تهميش المنتخب وتبخيس دوره؟ ومن المستفيد من هذه الوضعية التي أعادة للإدارة هيمنتها وصولتها؟ لقد نجحت الحكومة من خلال وزارة الداخلية في وضع المنتخب في خانة “القاصر” وسلبه كل آليات التحرك تحت ذريعة هاجس الانتخابات، ومنحت بالمقابل لنفسها الحق القيام بهذه المهمة التي سيكون لها تبعات في المستقبل القريب، ويصبح لازما على السياسي بعد “كورونا” البحث عن تزكية الإدارة قبل تزكية الناخب إن هو أراد المشاركة في تدبير الشأن العام، بعد”كورونا” تأشيرة المرور للهيئات المنتخبة سيكون مرهونا برضى “القايد” و”المقدم”، بعد “كورونا” أدوات اللعبة السياسية حتما ستتغير.
وما دمنا نتحدث عن التغيير في زمن الجائحة، فحتى الفساد تحول إلى أسلوب إدارة يهدد بأزمات وانسدادات بنيوية عميقة، إلى درجة لم تعد القوانين عائقًا أمام ممارسات المفسدين الذين شحذوا القوة والنفوذ لاقتناص أرباح إضافية، وصاروا قادرين على كبح وتوقيف القوانين المعادية لهم وإعادة تشكيلها بما يخدم مصالحهم، حتى وصلنا إلى فساد بالقانون وليس فسادًا بمخالفة القانون. وإذا كان تحمُّل المواطنين لتكلفة هذا فساد عاملًا مساعدًا في استمراريته، فإن محاولة فهم الفساد وقدرته على الاستمرار لا يمكن أن تجد صداها إلا في البنية التشريعية المتسامحة مع المعتدين على جيوب المواطنين، ومن هنا جاء استغراب عبد الله بوانو بخصوص الأسباب التي حالت دون إصدار مجلس المنافسة لتقريره حول قطاع المحروقات الذي ضل سعره خلال الجائحة مرتفعا رغم انهيار السوق العالمية، هذا القطاع الذي لم يكن يوما عند حسن ضن المغاربة لا قبل زمن “كورنا” ولا حتى أثنائه، أضف إليه قطاعي البنوك والتأمينات اللذين تخلفا يوم الزحف على وباء “كوفيد-19” بسبب التعقيدات التي واجهها المواطنون المتضررون في تأخير اقتطاعات قروضهم، والزيادات في الفوائد التي فرضت عليهم نظير التأجيل وغيرها من الإجراءات التي ضربت في العمق عنصر الثقة بين المواطن والمؤسسات المالية.
ومع كل هذا ما زال عبد الله بوانو الطبيب والنائب البرلماني عن دائرة مكناس عند نفس الموقف ولم يبدل تبديلا، بل أضاف جرعات من الجرأة التي اعتبرها البعض زائدة إلى مواقفه عندما وضع الأصبع على مكامن الداء بطرحه سؤالا جوهريا فيما إن كان المغرب قادرا فعلا على تحقيق الأمن الغذائي لمواطنيه، أو بصيغة أدق، هل نستطيع إنتاج غذائنا بإمكانياتنا وباستخدام مصادرنا المتوفرة؟ الجواب مع الأسف لا، لأننا ببساطة لا ننتج البذور المختارة، وبالتالي سنبقى تحت رحمة السوق العالمية، لنطرح سؤالا آخر، بماذا ستنفعنا إذن مؤهلاتنا الطبيعة والعنصر الأساسي في عملية تأمين الغذاء مرتبطة بقطاع البذور؟ ما الجدوى من مخططات وزارة الفلاحة التي ظلت تستنزف من الميزانية العامة للدولة ملايير الدراهم لأكثر من عشر سنوات إن لم تكن قادرة على تحقيق الأمن الغذائي؟ لقد فشلت المقاربة التي اعتمدها مسؤولي الفلاحة عندما اتجهوا نحو عملية التجهيز وتركوا على الهامش موضوع البحث العلمي في قطاع الفلاحة الغذائية، فهل تنقصنا الكفاءات العلمية؟ لا نعتقد خصوصا وأن المغاربة أثبتوا أنهم قادرين على صنع المستحيل، وبأنهم رجالا ونساء أهل التحدي بامتياز، وما جهاز التنفس الاصطناعي الذي أبدعته أيادي مغربية خير دليل على أن هذه الكفاءات لا تحتاج سوى إلى الثقة من جهة، والى تخلي مسؤولينا عن التبعية العمياء للغير من جهة أخرى. فكورونا أيقظتنا من الغفلة، ووضعتنا أمام أنفسنا، وجعلتنا نؤمن بأمر واحد، وهو إما أن نكون، أو لا نكون، كورونا كشفت لنا من هو المخلص لهذا الوطن، ومن له المصلحة في إبقاء قوتنا بيد غيرنا، كورونا كشفت لنا حقيقة من يسعى لخدمة هذا الوطن ومن يسعى للعبث بمصالحه، كورونا أبانت عن مواقف رجال وشرفاء هذا الوطن، ولعل موقف بوانو الأخير التي أكسبه تعاطفا كبيرا من طرف المهتمين والمتابعين، نزل على الانتهازيين والوصوليين كالصاعقة وأفقدهم صوابهم ليتبين بجلاء إلى أي حد يمكن لموقف واحد من أحد قادة حزب العدالة والتنمية، أن يزلزل كيانات الخصوم ويربك حساباتهم.