مقالات الرأي
بلقزيز يكتب.. الانسداد السياسيّ ونتائجُه الكالحة
عبدالاله بلقزيز
لا تنمو السياسةُ إلاّ في بيئةٍ سياسيّة مناسِبة. لا إمكان لقيام حياةٍ سياسيّة عامّة – والحياة الحزبيّة منها- ونُمُوِّها وأدائِها أدوارَها في تنمية مواطنةٍ منتجة في بيئةٍ لا تُسْعف بإمكان ذلك ، أي في بيئةٍ نابذة أو طاردة. والذي قد ينشأ من جوف مثل هذه البيئة – غير السياسيّة المناسبة- من تكوينات حزبيّة وتنظيميّة ليس من السياسة ومن قوى العمل السياسيّ في شيء، وإنْ هو ادّعى ذلك؛ إِذِ الغالب عليها أن تكون شوهاء – إنْ هي وُجِدتْ- وأن يكون عَمَلُها عن قواعد السياسة بمعزل. لا غرابة، إذن، إنِ ازدهرت تنظيماتُ التطرُّف والعنف في المجتمعات المفرَّغة من السياسة، ومالت الممانعات والمغالبات والمنازعات فيها إلى التعبير عن نفسها عصبويًّا أو هويّاتيًّا، بحيث تَحُلُّ عصبيَّات القبيلة والقوم والطائفة والمذهب محلّ الانتظام في مشروع سياسيٍّ-اجتماعيّ وطنيّ مندمج، أي عابر للتكوينات الأهليّة وولاءاتها التقليديّة؛ وما انزلاق «السياسة»، في أكثر مجتمعاتنا العربيّة، إلى التطرف والعنف والمذهبيّة إلاّ التعبير الماديَّ الأفصح عن العسر الشديد في تكوينِ البيئة السياسيّة المؤسِّسة للحياة السياسية المتوازنة.
والبيئة النابذةُ للسياسة أنواعٌ متباينةُ الأشكال؛ منها ما يَكون في شكل بيئة مُغْلَقَة على السياسة بالكلّية؛ فلا يَحوي من أسباب السياسةِ غير عوامل النفي، ولا تكون السياسةُ فيها إلاّ شأنًا خاصًّا مخصوصًا (فئويًّا) لا شأن للناس والمجتمع به. السياسةُ، في هذه البيئة، محرَّمٌ من المحرَّمات التي لا تَقْبل الانتهاك، لأنّ الاشتغال بها يُمزِّق وحدة الجماعة، ويحُضّ على النزاع والفتنة. لذلك لا قوانين، في مثل هذه البيئة، تنظِّم الشأن السياسيّ، ولا دساتير تُحيطه بالضمانات، لأنه، باختصار شديد، شأنٌ غائبٌ لا يوجِب تشريعًا مناسبًا. ومن النافل القول إنّ ما يطبع مثل هذه البيئة المغْلَقة ويقترن بها هو ما وصفناه – في دراسة سابقة – بانعدام المجال السياسيّ؛ هذا الذي يكون إعدامُه شرطًا لازبًا لاحتكار السياسة من قِبَل فئةٍ محدودة من المجتمع. ومن مترتَّبات ذلك الاحتكار الكامل للسياسة أنه ليس فقط لا يسمح بتكون مجتمع سياسي، بل لا يسمح بتكوُّن مجتمعٍ مدنيّ. هكذا ينتهي نموذج هذه البيئة المغلَقة إلى إنتاج قطبيَّة تنابذيّة حادّة بين السلطة والمجتمع العصبويّ تملأ فراغ السياسة!…
ومن هذه البيئة، أيضًا، ما يكون في ظاهره مفتوحًا فيما هو شبيهُ النوع الأوّل في انغلاقه؛ وبيانُ ذلك أنّ بعضًا من البلاد العربيّة المعاصرة يشهد على هندسةٍ سياسيّةٍ داخليّةٍ هجينة: من حيث الشكل ثمة برلمانات وأحزاب ونقابات وجمعيات حقوقيّة ومدنيّة وصحافة معارضة…، غير أنّ هذه جميعَها مكبَّلَةٌ بقوانين تقييدية تَحُدّ من قدرتها على العمل وممارسة وظائفها «الطبيعيّة»، أو محاصَرَةٌ ومراقَبَة، بطرقٍ غيرِ قانونيّة؛ والمنتسبون إليها معرَّضون، في أيّ وقت، للاعتقال والتوقيف، أو هي نفسها معرَّضة للحلّ ونزع الشرعيّة القانونيّة…إلخ. في هذا النوع الثاني من البيئة النابذة تتحوّل كلفةُ السياسة، عند مَن يغامرون بممارستها، إلى الحدود التي لا تكون فيها الغرامةُ منعًا لممارسة الحقوق فحسب، بل تُصبح انتهاكًا للحرّية – البدنيّة والنفسيّة- ومسًّا بالحقّ في الحياة في كثيرٍ من الأحيان.
من البيِّن، إذن، أنّ شطرًا عظيمًا من أسباب نكبة السياسة والعمل السياسيّ إنما هو قائم في نوع النظام السياسيّ القائم في قسمٍ كبير من البلاد العربيّة ،وتحديدًا، في ظاهرة الانسداد السياسيّ في النظام ذاك، والذي أتت أحداث «الربيع العربيّ»، في وجْهٍ رئيسٍ من وجوهها، تُفْصِح عنه وتمثِّل، في الوقتِ عينِه، احتجاجًا عارمًا عليه وعلى ما يُلقيه من تبعاتٍ ونتائج كارثيّة على الحياة العامّة والخاصّة؛ على الحقوق والحرّيات. وكما أنّ الانسداد السياسيَّ ذاك -الذي تعرَّض لامتحانٍ عسيرٍ في أحداث «الربيع العربيّ»- برَّر، إلى حدٍّ بعيد، لماذا احتلت شعارات الحريّة والديمقراطيّة موقع الأُسّ الأساس في منظومة مطالب المنتفضين في بلدان «الربيع» ذاك، كذلك فسَّر لماذا أتتِ الأجوبةُ السياسيّةُ الحزبيَّةُ على هاتيك المطالب دون الانتظارات والتوقُّعات، ولماذا هي أغرقَتِ الحَرَاك الاجتماعيّ في مستنقعٍ من التناقضات، وأدخلتْهُ في أنفاقٍ سياسيّةٍ كالحة، بل وأودتْ به في المطاف الأخير من رحلته السيزيفية. لقد كانت صورةُ الحزبيّة السياسيّة، أثناء أحداث «الربيع العربيّ»، قد تحدَّدت سلفًا ورُسِمتْ ملامحُها وقسماتُها، ووُضِعت لها التخومُ وحدودُ الإمكان منذ زمنٍ سابقٍ لِ«الثورة»؛ أعني: منذ فَرَضَ الانسدادُ في النظام السياسيّ أحكامَه فقَضَى بإعدام السياسة كإمكانٍ من إمكانات الفعل الاجتماعيّ المنظَّم، وبالتالي، قضى بأن يسلك الفعلُ الاجتماعيُّ ذاك مسالكَ غيرَ سياسيّة: عسكريّة مسلّحة، أو عصبويّة فتنويّة.
ما كان «الربيع العربيُّ»، في حساب السياسة، شيئًا إلاّ أنه تنزَّل منها بمنزلة المخْتَبَر الذي تختبر نفسها فيه. وفي المختبر هذا تبيَّن، بأسطع البيّنات، أنها ( السياسة) كانت مهترئة، ومؤسساتُها الحزبيّة متهالكة.