مقالات الرأي
ما وراء النقاب
عندما وُجد الإنسان على سطح الأرض أول مرة، وُجد عاريا، ولأن طبيعته البشرية ترفض هذا الأمر، بدأ يبحث عن ما يستر به جسده، فقام بداية بستر عورته، ثم تدرج في ستر بدنه، وقاية من قساوة البرد، ومسايرة لفطرته التي جُبلت على الستر والاحتشام. فكان من الطبيعي إذن، ومع تقدم العلم وتفقه الإنسان في مختلف العلوم وارتقائه في سلم المعارف، أن يكون أحرص على تغطية وستر بدنه، بل وأعلم بأن ذلك هو الصواب.
لكننا اليوم بتنا نشهد ما يدل على تراجعنا سنوات إلى الوراء، رغم أن الزمن يسير بنا إلى الأمام، فمواقف ساداتنا وكبرائنا أبت إلا أن تسير عكس التيار، وتعود بنا إلى زمن كان حجم القماش الذي يغطي جسد الإنسان، هو نفسه حجم المعارف الضئيلة التي تملأ رأسه الضخم.
لم أجد تفسيرا لما أقدمت عليه وزارة الداخلية المغربية بمنعها خياطة وتسويق وبيع ‘‘البرقع‘‘، ذاك اللباس الذي يغطي سائر جسد المرأة، بما فيه اليدين والوجه، لم أجد لذلك تفسيرا عدى أنها أرادت أن تضرب عصفورين بحجر واحد.
فالمعلوم أن المجتمع المغربي يمر بفترة عصيبة إثر تأخر تشكيل حكومته، مما أدى لخلق جدل واسع على مواقع التواصل الاجتماعية، يدلي فيها الجميع بدلوه في الموضوع، وتتضارب الآراء حينا وتنسجم حينا آخر. ولأن هذه المواقع تعدت كونها مجرد فضاءات لنشر الصور وتبادل التهنئات والتمنيات بنهار جميل للجميع، وتجاوزت ذلك لتصير منابر للتعبير عن الرأي في ما يتعلق بقضايا كبرى وحساسة، وأضحت سلاحا في أيدي الجميع، أرادت السلطات العليا أن تشغل الشعب قليلا بما ينسيه في الأمر لبعض الوقت، خصوصا بعدما لاحظت أن تدوينة واحدة قد تثيره وتخرجه للشارع تظاهرا واحتجاجا. مبررة موقفها بأن ما منعته هو في الأصيل دخيل على ثقافة المجتمع المغربي، إضافة إلى أنه يهدد الأمن العام، وقد يُستغل في عمليات إرهابية أو إجرامية.
أما الأمر الثاني، وهو الواضح الذي لا يقبل شكا، فهو الرغبة في نزع ما تبقى من حياء، قبل نزع البرقع أو الخمار أو الحجاب، وهذا أمر منتظر في خطوة قادمة. ونزع كل ما يربط المرأة المسلمة بتعاليم دينها، وجعلها تتعايش غصبا مع ما يعملون على تهيئ الطريق له ليصير مستصاغا ومقبولا وعاديا. أما قولهم بأن اللباس مشبوه وسهل الاستغلال لتنفيذ العمليات الإرهابية، نظرا لعدم معرفة مرتديه، وإخفائه لهوياتهم، فالأولى بهم أن يمنعوا ذاك المسمى بالهالويين، وأن يوقفوا البابا نويل المتجول في شوارع المدن نهاية السنة، فذاك هو ما يجب الحذر منه، وذاك هو الدخيل الحقيقي على ثقافتنا.
في بلد كثر الحديث فيه عن الحريات الفردية، وحرية التعبير، وحرية المعتقد الديني، والحق في ارتداء اللباس الذي يعبر عن الهوية والمعتقد الثقافي والاجتماعي لكل مواطن، يأتي أمر بالمنع ليضرب كل ذلك عرض الحائط، ويصفعك بقوة لتستيقظ من سباتك العميق، ويخبرك بأن الحرية والمساواة ما هي إلا مواثيق كُتبت وبقيت حبرا على ورق.
فلا يعقل أن تشن الجهات المعنية بين ليلة وضحاها حملات واسعة لمراقبة المحلات التي تبيع ذاك النوع من اللباس، وتقوم بتنبيه الباعة وتحذيرهم من بيعه مجددا، بل وتهديدهم إن هم خالفوا أوامرها بإغلاق محلاتهم التجارية. لو أن جهودا كهذه بُذلت لمحاربة المخدرات مثلا، وإلقاء القبض على متاجريها، أو سُخّرت لإغلاق الملاهي الليلية ودور الدعارة والفساد، لكنا أحسن حالا.