من المشاكل المزمنة التي يعاني منها أغلب المواطنين، الطبيعةُ المتعجرفة للدولة، ممثلة في سلوك إداراتها وموظفيها وأعوانها المدنيين والعسكريين، إلا من رحم الله.
فهناك واقع شائع، يعيشه ويتجرع مرارته عامة المواطنين «العُزَّل»، وهو أن موظف الدولة، في تصرفه وتعامله معهم، يكون صاحب مقام واعتبار أعلى وأقوى ممن أمامه من “عامة الناس”، وهو ما يسمح له بأن يكون فظا معهم متى شاء، عديم الأدب واللياقة إن شاء، مستعليا متعجرفا على الضعفاء، وعلى مَن لا يعرف أنهم أقوياء. فهذا من جهة الموظف.
أما أولئك الواقفون أو الجالسون، المنتظرون أمامه أو أمام بابه أو شباكه، فالمقام المذكور يفرض عليهم أن يكونوا في غاية التواضع والتذلل، وتمام اللياقة والتأدب، محتاطين حتى في نظراتهم ونبراتهم وحركات أيديهم، صابرين مستكينين، يخشون غضب الموظف ويتقون انتقامه…
فالموظف والمسؤول إذا استعجلتـَه أو أغضبتـَه – ولو بسؤال أو توضيح أو مناقشة للأمر- يستطيع فورا أن يرد عليك ويوقفك عند «حدك»، ليذكرك بمقامه ومقامك عنده، وقد يُدخلك – على الأقل- في مزيد من المماطلة والتسويف ومزيد من الشروط والتعقيدات. ولأنه يعرف طبيعة الإدارة المغربية ومن فيها من أمثاله، فإنه قد يتحدى المحتج عليه والمطالب بحقه، فيقول له: اذهب إلى الوزارة، اذهب إلى المحكمة، ادخل عند المدير، اذهب إلى حيث شئت…
هكذا يقف الموظف الحكومي والمسؤول الحكومي دوما موقف القوي المتغلب المستعلي، ويقف المواطن «الأعزل» موقف الضعيف المغلوب المستجدي لحقه، الخائف على نفسه وحاجته.
هذا الواقع المرّ نجده عند الرؤساء والمدراء والوزراء وكبار الموظفين، كما نجده مع المتوسطين وصغار الموظفين. وحتى البَوَّاب قد تجد فيه من العجرفة على قدر رئيسه ومحروسه.
على أن هذا السلوك الـمَرَضي المتخلف تغذيه وترسخه النظرية السلطوية الشهيرة، نظرية «هيبة الدولة». هذه النظرية –للأسف– يرددها ويمارسها عامة رجال السلطة وكبار موظفي الدولة. وهي، في نظرهم، تقتضي أن تكون يد الدولة ورموزها دائما هي العليا المتعالية، ويد المواطنين هي السفلى المتدنية. وفي هذه النظرية، يعتبر سعادة الموظف ممثلا للدولة ومجسدا لهيبتها واستعلائها وعجرفتها.
القانون الجنائي يحمي عجرفة الدولة وموظفيها
ومن أمثلته الكثيرة هذا الفصل المرقم بـ(263)، الذي يقول: «يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة، وغرامة من مائتين وخمسين إلى خمسة آلاف درهم، من أهان أحدا من رجال القضاء أو من الموظفين العموميين، أو من رؤساء أو رجال القوة العامة، أثناء قيامهم بوظائفهم، أو بسبب قيامهم بها، بأقوال أو إشارات أو تهديدات، أو إرسال أشياء أو وضعها، أو بكتابةٍ أو رسوم غير علنية، وذلك بقصد المساس بشرفهم أو بشعورهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم…».
ففي الوقت الذي يُحصي فيه هذا الفصلُ على المواطن الأعزل أنفاسه وكلَّ ما يتصوره وما لا يتصوره من الحركات والإشارات العفوية والنوايا المفترضة والأشياء والرسوم غير العلنية… يحصيها عليه ويضعها تحت طائلة السجن والغرامة، بتهمة إهانة الموظف والمس بشرفه أو حتى بشعوره، لا نجد بالمقابل، لا في هذا الفصل ولا في غيره من الفصول، أي شيء عن إهانة الموظفين للمواطنين العزل، سواء بنفس تلك الإشارات والرسوم والأشياء، أو بما هو صريح صارخ من أشكال الإهانات والاستفزازات والتهديدات والخشونات اللفظية والمعنوية.
إن الموظف الذي يجب أن يكون في محل القدوة والمثالية والانضباط، يتغاضى القانون عما قد يصدر عنه من التحقير والإهانة والفظاظة وسوء المعاملة لعامة الناس، ولكن لو رد عليه بعضهم بمثل كلامه وبمثل تصرفه وحركاته، أو بما هو أدنى من ذلك، لكان واقعا تحت سطوة الفصل (263 ق ج).
ومما يجسد عجرفة الدولة ورموزها ذلك القيامُ المفروض على الناس في المحاكم، كلما دخل القضاة أو خرجوا. لا شك أن دخول القاضي إلى جلسة الحكم يتطلب الاحترام والهدوء والانضباط، ولكن القيام لدخوله وخروجه لا معنى له إلا ترسيخ العجرفة والتعالي والهيبة الزائفة.
فمتى يستطيع المواطن الأعزل (أي الذي ليس له جاه ولا مال ولا ركيزة…) أن يتعامل مع المسؤولين والموظفين والأعوان العموميين بندية ومساواة، وأن يحاججهم ويرد عليهم دون خوفٍ على سلامته وكرامته، ولا خوفٍ على مصير مصلحته وقضيته؟ ومتى يستطيع المواطن الأعزل أن يدخل إلى الوزارات والمحاكم والعمالات والقيادات ومراكز الشرطة أو الدرك… وهو محتفظ بكامل كرامته وحريته وشرفه، إلى أن يخرج منها مرفوع الرأس؟
نحن اليوم بحاجة إلى محاكمة سياسية للدولة، وللسلوك المتعجرف لموظفي الدولة ومسؤوليها. أما محاكمة فردين أو ثلاثة لأجل التنفيس والتلبيس، فلن تجدي شيئا.
أحمد الريسوني يكتب: الدولة المتعجرفة والحاجة إلى محاكمة سياسية

مقالات ذات صلة

الانتماء والوطنية.. حين توحّد كرة القدم المغاربة خلف راية واحدة
21 أكتوبر، 2025

احتجاجات جيل زاي: قراءة في التركيبة والأداء والتفاعل
8 أكتوبر، 2025

تآكل خطاب ذ. عبد الصمد بلكبير أمام حركة جيل زد بالمغرب
5 أكتوبر، 2025
أحدث الفيديوهات
الأكثر قراءة
- 1
- 2
- 3
-
4
اختتام فعاليات الدورة الثانية من مهرجان السينما والمدرسة بطنجة
0 2 يونيو، 2025 - 5
- 1
- 2
- 3
-
4
اختتام فعاليات الدورة الثانية من مهرجان السينما والمدرسة بطنجة
0 2 يونيو، 2025 - 5
آراء الكتّاب
شمالي
كاتبرونالدو يشيد بإنجاز المغرب في مونديال الشباب: “قصة جميلة تستحق الإعجاب”
أشاد النجم البرازيلي السابق، رونالدو نازاريو، بالتتويج التاريخي الذي حققه المغرب في كأس العالم لأقل…
22 أكتوبر، 2025
شمالي
كاتبالتدابير الجبائية المقترحة في مشروع قانون مالية 2026
في ما يلي أبرز التدابير الجبائية المقترحة في إطار مشروع قانون المالية لسنة 2026، كما…
22 أكتوبر، 2025
شمالي
كاتبLa CAF révèle les listes des nominés aux CAF Awards 2025 : qui sont les favoris ?
La Confédération Africaine de Football (CAF) a dévoilé les listes finales des nominés pour les…
22 أكتوبر، 2025