مقالات الرأي
محمد أمحجور..عن جبرون وأشباهه والحاجة إلى التفكير المختلف
لم أرد الالتحاق بالنقاش الدائر على خلفية مقالة رأي ألقى بها الصديق العزيز امحمد جبرون في فترة دقيقة في مسار البناء الديموقراطي والصراع الدائر اليوم قبيل الانتخابات المرتقبة.. فأنا في عطلة قصيرة ورغبتي كانت أن أظل في راحة وارتياح، لكن مع ما رافق ذلك من “شد وجذب” كان لا بد من بعض الكلام، أوله اليوم منهجي عام لا علاقة له بموضوع المقال المذكور، وثانيه بعد حين إذا تيسر قول في المضمون، وهو رغبة في “فصل المقال فيما بين الملكية والتحكم من انفصال”..
الكلام الأول: في الحاجة الدائمة وغير المشروطة للنقد والرأي المختلف
حقيقة ما أثارني فيما رافق السجال المتعلق بمقال جبرون هو ما بادرت بتدوينه منذ اللحظات الاولى للتفاعل مع المقال ونبهت فيه إلى ضرورة احترام حرية التعبير عن الرأي مهما كان مخالفا أو مختلفا، كما نبهت إلى أن التخوين أو الترهيب لا يليق ولا يمكن دفع الناس جميعا إلى اعتناق رأي واحد موحد .. وزاد من سوء بعض ردود الأفعال اتهام للنية وللنضالية ، وهنا لا بد من التعريج على الشخص ببعض الشهادة اللازمة في هذا المقام.
من هو امحمد جبرون؟!
امحمد هو أحد خريجي مدرسة التوحيد والإصلاح، وهو منتوج خالص لها، درج فيها وتدرج. فهو تأطر في العمل التلمذيً ، في بداية تسعينيات القرن الماضي، في إطار الجماعة الإسلامية وحركة الإصلاح والتجديد، ومن تلك المرحلة التحق بِنَا بالجامعة وتدرج بالعمل الطلابي، مناضلا مبتدئا ومسؤولا طلابيا محليا وبعد ذلك قيادة طلابية وطنية يعرفها كل من عاش تلك المرحلة، وقد عايش معنا العمل النضالي في ظروف جد خاصة وحرجة ومميزة، دون أن تكون حينها مغريات أو مغانم بل العكس هو الذي كان. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن النقد الذاتي والتجديد الفكري كان أغلب زاد المرحلة، حينها كان التهام إنتاجات القيادات الحالية، بنكيران ويتيم في “الاختيار الحضاري” وسعد الدين “في الفقه الدعوي”، والمقرئ في محاضراته التي كانت تفتح الأعين والعقول على مدارس المراجعات وجدوى السؤال.
هذه الأدبيات أسلمت جيلا كاملا إلى التهام عشرات الكتب لمالك ابن نبي وحسن الترابي والغنوشي وفهد النفيسي وَعَبَد الحليم ابو شقة وخالص جلبي وجودت السعيد، وغيرهم من من علموا ذلك الجيل جدوى السؤال، وأهمية النقد والرأي المخالف والمختلف..
بعد المرحلة الطلابية أكمل جبرون مساره في الحركة من مواقع تنظيمية مختلفة يعرفها أبناء الحركة ولما انفتح الحزب على أبناء الحركة كان له أيضا نصيب في التأسيس.. وهنا وجب على بعض شبابنا اليوم أن ينزلوا الرجال منازلهم، وأن ينتبهوا إلى بعض ألفاظهم وأحكامهم فلا يسيؤون الظن فأحرى أن يسيؤوا الأدب.
إن مسارا مثل هذا لا يمكن أن يوضع جانبا، ويشرع البعض في التكلم عن شخص كأنه مجهول رمت به سجالات السياسة اليوم، واستهواه “التحكم” فأغواه وأستعمله في التشويش على معركة مواجهة التحكم..
إن جبرون نعرفه ونخبره، نحاوره ونجادله، وهو “منتوج” يشبهنا ونشبهه، درجنا في منهج لم يضق يوما بالسؤال، وأعجب اليوم كيف انتقلنا من جيل كان يجتهد في البحث عن رؤى نقدية تجديدية، كانت تستفز العقول وتشحذها وتفتح نقاشات لا تنتهي، لكنها كانت تصقل عقولا يافعة هي اليوم صارت كبيرة.
والخلاصة في هذا الأمر أن “الاستفزاز” الذي مارسه جبرون هو في الحقيقة إنما هو أقرب وأشبه ما يكون باستفزازات مارسها كثير من إخوتنا علينا في زمن مضى، وكانت عقولنا “الصغيرة” تجاهد قراءة ومطالعة وجمعا للحجج للحجاج والتناظر مع تيارات طلابية ومجتمعية يسارية وإسلامية. فما الذي تغير بين الأمس واليوم.
المثقف والتنظيم.. الرأي حر والنتوءات لازمة
تنزع التنظيمات إلى الاصطفاف والانضباط، هذه هي القاعدة، وكنا ولا زلنا نعمل في الحركة والحزب على توسيع دائرة الحرية، حرية التفكير وحرية التعبير، لكن النزوع الجماعي في التنظيمات ينزع نحو التنميط و”الضبط”، والحقيقة أن أغلب الفنانين والمثقفين تضيق بهم الأوعية التنظيمية، وتخنقهم القرارات والمقررات. وهنا أذكر رأيا لجبرون قبل سنوات كان قد استفز قيادة الحركة، وكان حينها عضوا بمجلس الشورى، وكنت قلت حينها لعدد من الإخوة أن الرأي لا يزعه القرار التنظيمي بل يزعه رأي ومجادلة.
وأنا عندي قناعة بالأهمية الاستراتجية لتواجد مثقفين “محترفين” في التنظيمات، فالاستفادة تكون للطرفين معا، فالمثقف “يختبر” أفكاره وأطروحاته، والتنظيمات تستفيد من الرؤى “المثقفة” التي تعطي عمقا ومعنى لكثير من خططها ومقرراتها.ً
وإن كان من نقص لنا اليوم في الحزب والحركة فهو انغماس عدد مقدر من “العقول” في العمل اليومي والعملياتي وهو ما ترتب عنه ضمور في الانتاج الفكري والثقافي المنضبط لأصول الصنعة والمبتعد عن إملاءات الخطابة.
السياسة رأي لا عقيدة
كثير من ردود الفعل حول المقال المذكور جاءت منشنجة، وشابها كثير من اللمز والهمز، كأن الرأي خرق معلوما من الدين بالضرورة، أو هتك حرمة ما كان لها أن تنتهك، والحقيقة الموضوعية أن الرأي قارب من وجهة مختلفة معضلة حقيقية تثقل كاهل الوطن أي “التحكم”، وهو مقال في جدوى خيار حزب العدالة والتنمية في استمرار وضعه الأصبع على ما يعتبره الداء الأكبر في السياسة المغربية اليوم.
هل هو بدع من القول؟ هل معنى هذا الطرح أن أطروحة الحزب في خطر؟ صدقا إذا كانت أطروحة الحزب على هذا المستوى من الهشاشة بحيث تنسفها مقالة رأي أو تشوش عليها أو تضعفها فلا حاجة لنا بها إذا، ولندعها تنهار الآن قبل الغد ولنبحث لأنفسنا عن شيء آخر يستحق العناء.
أعتقد أن كثيرا من أبناء العدالة والتنمية تعوزهم الثقة في اختياراتهم، وتعوزهم الحجة والاستدلال، وعوض أخذ الوقت اللازم للحجاج والمدافعة يلجؤون إلى الوجبات السريعة التي قد توهمك بالشبع لكنها تنخر صحتك في العمق وتلبسك من الأمراض ما يضعف جسدك وذهنك.
السياسة كما تعلمنا هي اجتهاد في الرأي يحتمل الخطأ والصواب، فلا هي بالقطعية الثبوت ولا الدلالة. ومن حملها أكثر من هذا فهو تحميل بما لا يُطاق.
في حساسية السياق والتشويش المضر
لا يوجد قاتل للنقد أسوأ من هذا الادعاء، كثيرون ضجروا من الرأي باعتبار سياق التعبير عنه، وما يرتبط به من انتخابات ووحدة صف وعدم تشويش على “معركة” 7 أكتوبر، كما أن بعض إخوتنا اعتبر أن الجدل الذي وقع سيستغله أعداء الحزب قصد التشهير والتشويش وغير ذلك..
إن النقد مطلوب لذاته بإطلاق، وليس المقام مقام استدلال، لكن يكفي التذكير بما تعلمناه في الحركة أيام “الجماعة” من أن القرإن الكريم نزل مقوما ومنتقدا للصحابة ودماؤهم ما زالت تجري يوم أحد، ليس من معنى للنقد خارج السياقات وبعد انتهاء دواعيه فهو حينها أقرب إلى التشفي منه إلى النقد.
ختاما..
على أبناء الحركة والحزب أن يظلوا أوفياء لأصولهم الأولى، ولا ينسوا أن كل منشئهم إنما كان فكرة نقدية لتجربة “الشبيبة الإسلامية”، في سياق مأزوم ومن شباب في مقتبل أعمارهم، لو اطلعت عليهم اليوم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا، لكنهم آمنوا بفكرتهم وأكملوا مسارهم مراجعات تتلوها مراجعات إلى أن صاروا إلى ما هم عليه الآن..
دعوا لإخوانكم حرية الكلام، ودعوا لمن شاء أن يقول ما شاء فالحرية أساس التكليف. وإذا ضاق صدركم بأحد منكم، فكيف يصير حالكم لو انتقدكم من لا يشبهكم ولا يتفق معكم أو يعاديكم.؟
ومع ذلك فأنا أختلف مع جبرون
بقي أن أشير في النهاية إلى أنني مختلف تماما مع ما ذهب إليه جبرون وعبرت له عن ذلك، فالبحث عن النماء الاقتصادي والاجتماعي سراب يدفعه البناء الديموقراطي للبلد، والأطروحة الأساسية المناسبة للمرحلة هي الدمقرطة وهي وحدها الكفيلة بكسب رهان التنمية فهي أساسها المتين وعائق كل ذلك تحكم يفرغ الديموقراطية من محتواها ويعدم السياسة. وأكبر خطأ في أطروحة جبرون هو التماهي الذي سلم به بين التحكم والملكية وهو خلط أفسد أطروحته، وإن شاء الله لنا عودة لذلك لنبين ما بين التحكم والملكية من انفصال.
وأخيرا وليس آخرا.. قبل أن أنسى البعض أشار، في سياق اللمز، إلى الذمة المالية والبعض لمح للخوف من المواجهة وأفضلية لزوم الصمت، نسيت أن أذكر معلومة قد تكمل الشهادة التي أدرجتها في أول الكلام، فجبرون امحمد هو زوج الأخت، فإضافة إلى معرفتي به أيام الدرس الجامعي، فأنا أعرفه مصاهرة، وهو منزه عن كل ما تم اللمز والهمز به رجل نزيه مستقل شجاع .. ولو كان غير ذلك لما شرفت بمصاهرته..
ودمتم سالمين.