مقالات الرأي
فيصل الأمين البقالي..دروس من الانقلاب التركي الفاشل
نحمد الله تعالى أن جنب تركيا وتجربة العدالة والتنمية فيها – بما تمثله من قيم وترسمه من آمال للأمة – من قتام الانقلاب واندياحاته السلبية على الأمة كلها .. لكن ثمة عبر ودروس ومعان يجب الوقوف عندها أحببتُ أن أتقاسمها مع الإخوة لنفيد ونستفيد:
1- لا يقل الموقف المُسارِع إلى إلصاق تهمة الانقلاب بجماعة فتح الله غولن وتردادها بدون تحفظ في خِفَّتِهِ عن خِفَّةِ ونزق من سارعوا إلى مباركة الانقلاب الفاشل وإخراج أضغانهم فيه ! .. فكلاهما يصدر في الغالب عن نعرة إيديولوجية لا تبصر الحقائق إلا بمنظار التعصب الضيق
2- تعاطفنا مع أردوغان وحبنا له لا يجب أن ينسينا حقيقة أنه “كائن سياسي” .. نعتقد فيه الصدق والصلاح نعم .. ولكن ذلك لا يعني أنه سيتردد في استعمال هذه النازلة إلى أبعد حدّ في تحييد خصومه إن لم نقل تصفيتهم سياسيا على الأقل .. إن خطورة أردوغان تكمن في قدرته على المزاوجة الحسنة بين براغماتيته السياسية الفاعلة ومبدئيته النضالية العالية .. يحمي مصالحه السياسية بالأولى ويحقق حدا مقدرا من مصالح الأمة بالثانية ..
3- حركة الخدمة ليست فوق القانون ولا فوق النقد ولا أهلها فوق التهمة
4- لو صَحَّ أن منفذي الانقلاب لهم علاقة بجماعة الخدمة، فلا يعني ذلك بالضرورة أن تكون الجماعة كلها متورطة بلهَ أن يكون فتح الله غولن .. وإن كانت لها بالضرورة (وله أيضا) مسؤولية معنوية ما، تحتاج معها إلى الإدانة الصارمة والواضحة للانقلاب وهو ما تم بشكل محتشم مع الأسف وبشكل متأخر .. كما لا يستبعد أن تكون موظفة توطيفا ما لحساب جهة ما ..وذلكم داء الحركات والجماعات الباطنية والسرية .. ومعلوم أن جماعة الخدمة لها ظاهر وباطن .. وباطنها هو شبكة العلاقات الضخمة اقتصاديا وماليا وسياسيا واجتماعيا التي يتم توظيفها في الضغط السياسي .. ولئن تحكم القائمون عليها في ظاهرها فما أصعب ذلك في الباطن !
5- نحن نذكر كيف اغتال النظام الخاص للإخوان المسلمين سنة 1948 (وهو تنظيم عسكري كان الهدف منه مقاومة الاستعمار الإنجليزي في مصر) كلا من النقراشي باشا رئيس الوزراء في ذلك الوقت والقاضي الخازندار دون علم ولا موافقة من حسن البنا رحمه الله، فقط لأن البنا عبر عن امتعاضه يوما من أحدهما وهو الخازندار على خلفية حكم قضائي جائر، ولأن الثاني وهو النقراشي باشا كان قد أصدر قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين .. وهو ما استنكره حسن البنا بقوة في مقالة شهيرة بعنوان “ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين” .. لكن الجماعة كلها دفعت ثمنا باهظا من مشروعها الدعوي والسياسي ودماء وأعمار أبنائها وعلى رأسهم الإمام الشهيد حسن البنا الذي دبرت محاولة اغتيالة سنة 1949م .. ونحن إذا طالعنا هذه الواقعة نجد أن ما برر به عبد الرحمن السندي فعلته ظنه أنه تجاوب “بذكاء” مع تلميحات حسن البنا وهو ما استنكره البنا رحمه الله بشدة وغضب وقال للسندي المسؤول عن النظام الخاص حينئذ في لقاء خاص مثبت في موسوعة الإخوان المسلمين: “دم هذا الرجل فى عنقك يا عبد الرحمن بهذا الفقه المغلوط الذى تقوله وأشهد الله وأشهد إخوانك أننى برىء كل البراء مما ارتكب!!” .. فانظر كيف يمكن أن تسيء مجموعة متهورة منتطعة إلى جماعة بكاملها كبيرة مثل جماعة الإخوان المسلمين وتمتد إساءتها في التاريخ والجغرافيا ..
6- أن تدبير العلاقة بين ما هو دعوي وسياسي أمر بات ملحا على فكر الحركة الإسلامية وأنه مما يدخل إليها منه كثير من الوبال والخطل والزلل .. فإنه مما يعاب على حركة الخدمة أنها تتغلغل في الدولة من خلال تغلغلها في المجتمع لتصبح “كيانا موازيا” .. وإنما استطاعت جماعة الخدمة أن تصل إلى ما وصلت إليه بفضل شبكة مدارسها التي تعطي خدمة تعليمية وتربوية فائقة تُمَكِّنُ المنتسبين إليها من الولوج إلى أحسن المعاهد والجامعات ليتخرجوا رجال دولة من ذوي المراتب العالية مع بقاء ولائهم لمدرستهم وشيخهم .. سواء كان هذا الولاء خاصا أي ذا طبيعة تنظيمية معينة أو عاما أي أن يبقى تعاطفا يعبر عن نفسه ماليا أو لوجيستيكيا أو حتى أدبيا .. فالذي يعاب على الجماعة هو استثمارها لرأسمالها هذا في تحريك دواليب السياسة والاقتصاد والدخول في غمار المكايدات السياسية والانتصار للاجتهادات السياسية المخصوصة وهو ما لا يتماشى مع رسالتها الكبرى المعلنة تربية ودعوة وخدمات اجتماعية .. وقد كان الأولى بها أن تدخل غمار السياسة بشكل واضح ليعرف توجهها أو تعرض عنها بالقطع التام لتصرف عنها الشبهات .. غير أننا ونحن نتغيى الإنصاف وقبله الفهم، لا نرى في كثير مما تفعله جماعة الخدمة إلا شبيها لما تتبناه كثير من الحركات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين فيما يتعلق بمعنى التغلغل في الدولة والمجتمع لتحقيق مكاسب للدعوة والمشروع السياسي والاجتماعي الذي تتبناه، ربما ليس بذلك الشكل الفج ولكن لعل الامر يعود إلى ضعف الكفاءة وليس إلى اختلاف القناعة .. الأمر نفسه بتعلق بإخواننا الشيعة ومن يتبنى فكرهم السياسي فتجد عندهم هذا الخلط الذي هو عبارة عن مزاوجة سيئة بين البراغماتية القانية والطهرانية الفانية مزاوجة توقع في الخرافة والهوس، والحقد والدلس..
وبالتالي فإن التباس العلاقة بين ما هو دعوي وبين ما هو سياسي لكفيل بخلط الأوراق خلطا نستفيق به على كوارث في السياسة والفكر يصعب فهمها وتفسيرها بله تبريرها .. وهذا امر يحتاج إلى تفصيل في مقامه
7- يجب أن يكون واضحا في أذهاننا أننا نفرح لفشل الانقلاب وانتصار الديموقراطية وخروج تركيا من شبح العسكر بدرجة أولى وليس بالضرورة لانتصار أردوغان أو العدالة والتنمية .. فرحنا لانتصار أردوغان يجب أن يكون وقت الانتخابات لأنه فرح باستحقاق سياسي مخصوص اما هنا فالامر أكبر من أردوغان ومن العدالة والتنمية التركي .. وقد علَّمَنا القرآن هذا الفهم في سورة الروم فقال: “بسم الله الرحمن الرحيم. الم. غُلِبَتِ الرُّوم. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ, فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.”
فكان فرح المسلمين بانتصار الروم فرحا ذا حسّ استراتيجي منبن أساسا على بعدين: أحدهما البعد العقدي الديني الذي يمثل فيه الروم أهل كتاب لهم قرب عقدي من المسلمين مقارنة بالمجوس من الفرس، والثاني له بعد سياسي لما يمثله هذا الانتصار من انعكاسات على أمة العرب في ذلك الوقت سياسيا واقتصاديا .. ففرحنا مرتبط بمعاقد ولائنا ومصاديق مصلحتنا وجودا وعدما ..
8- إن الرئيس رجب طيب أردوغان بشر يجري عليه ما يجري على الناس .. وبالتالي فإنه مع كثرة التمجيد، ومع هذه الانتصارات المتوالية التي يحققها والتي يستحق عليها كل التقدير، ليس بمنأى عن الطغيان والجنوح نحو الاستبداد .. وبالتالي فإن مخاوف البعض وكثرة تعليقهم على هذا ليس صادرا من فراغ .. والمعول هنا بعد الله على وعي الشعب التركي الذي يجب أن تحترم رغبته وإرادته حتى في اختياره للنظام الرئاسي .. وقد علمنا الفاروق رضي الله عنه هذا في قصة عزله لخالد بن الوليد وهو في أوجه حتى لا يربط الناس بينه وبين النصر.. ذلك أنهم يحققون النصر معا وان الأصل في النصر اجتماع الكلمة وحسن النية والتوكل ووضوح المقصد والأخذ بالأسباب وما إلى ذلك .. وما خالد إلا قائد عسكري عبقري يزيد من نجاعة الجماعة وحسن سيرها ولكن الأصل الأصل هي جماعة المسلمين لا قائدها .. فالأمة هي الأصل بتعبير شيخنا سيدي احمد الريسوني حفظه الله
9- منا قوم لا يفتحون أفواههم إلا متشدقين بالديموقراطية ومقدمين أنفسهم حماة لها غيورين عليها وهم ينظرون إلى حال بلداننا .. وكيف ان تركيا وما فيها ومن فيها متقدمون علينا بأشواط .. ومع ذلك لا يخجلون من التعبير عن خوفهم وتوجسهم من المسار الانقلابي على الديموقراطية الذي يقوده أردوغان ! وكأنهم في بلدانهم من المناضلين الذين يؤدون أثمانا باهظة حماية وتحقيقا لها .. والحال أنهم دائرون في خويصات أنفسهم .. ولو تعرضوا لأدنى مضايقة في إدارة أو مصلحة لانسلت أكفهم بالرشى ولتحركت نواصيهم لتدبير صنوف المحسوبيات وما يدخل في بابها .. وهذا من بلائنا معشر العرب الذي نسأل الله أن يشفينا منه..
10- مما أفاد أردوغان – بحسب المعطيات المتوفرة لحد الآن – وقوف الأمن والمخابرات إلى جانبه .. وليس فقط خروج الشعب عن بكرة أبيه لمؤازرته بل هما معا .. وإن كان الأكثر حسما هو آلية الضبط والإفشال التي مثلها الأمن والشرطة والمخابرات .. ومنه فإن الإصلاح السياسي باعتباره فعلا سياسيا عقلانيا يقوم من جهة على النيات الحسنة والمسلكيات الراشدة، ومن جهة أخرى يقوم على موازين القوى التي تضبط الشان العام والعلاقات بين مختلف الفاعلين .. ولا يمكن أن يحقق إصلاحا واستمرارا من كان على هامش موازين القوى أو لم يكن متحققا إلا بجزء صغير من شروطها .. وخذ تونس ومصر مثالا على ذلك ..
11- كثير من “الحداثبين” و”الديموقراطيين” العرب لا علاقة لهم عموما لا بالحداثة ولا بالديموقراطية .. وإنما هي بالنسبة إليهم كقصات الشعر والألبسة وأنماط الحياة المستوردة .. حُلىً يَلْبَسُونَها .. فإذا حُمًّ الخطبُ فإنهم يخلعونها .. وما حديث رابعة عنا ببعيد !
12- السياسة الغربية تُجاهَنا قصة نفاق كبير وكيد خطير .. وعداوتهم مهما فلسفناها وحللناها ثابتة على نغمة استعمارية واستكبارية نسأل الله اللطف .. وليس يقابلها في البشاعة إلا التيه العربي نخبا وشعوبا
13- نحتاج إلى خطاب عربي جديد .. فلقد تبين أننا معشر العرب رغم الأعراق التي تتوزعنا عربا أقحاحا وأمازيغ و أقباطا و أكرادا، فإننا من المحيط إلى الخليج أمة واحدة وشعب واحد له خصوصيته داخل الأمة الإسلامية والعالم .. فمواقفنا وأحلامنا وعواطفنا ومعاركنا مشتركة .. كما أن هذه النزعات القطرية لا تزيدنا إلا ضعفا وخبالا تماما كما أن النعرة القومية بالشكل الذي عرفناها به خلال القرن الـ20 لم تزدنا إلا هزيمة وإحباطا .. وها هي اليوم تلقي بطلالها من خلال تحطم حلم الربيع العربي على الصخرة السورية في أبشع صور الانقسام والتشرذم الذي يحفر عميقا في الوجدان والذاكرة بأحقاد لا تنتهي حتى بين من ليس بينهم أحقاد .. إننا نحتاج إلى بناء صورة جديدة لأنفسنا عن أنفسنا .. ونحتاج إلى قطائع معرفية عميقة تخفف من وطأة الماضي القريب والبعيد .. وهو أمر من الراهينة والخطورة والاستعجال بقدر خطورة موضوع مستقبلنا ومصيرنا المشترك.