سياسة
فيصل البقالي يكتب: نوسطالجيا مرشانية ..
خرجتُ أتَمَشَّى قُبَيلَ منتصف الليل بقليل لأكتشفَ ما تَحَوَّلَ إليه ملعبُ مرشان من مساحات خضراء جميلة وفضاءات للأسر والأطفال متحسرا على خروجي يوما من مرشان، إذ مرَّت بجانبي سيدتان تتهاديان تقول إحداهما للأخرى:
– فـــايْــــنْ وْصَــلْــتــي فْ أورْآن؟
أجابتها صاحبتها:
-الــيُــومـا يا خْـتـي شْـبَّـرْتْ وجْـلْـسْـتْ لْـكْ حْتَّى أْريـتْ جوجْ دْ أَّجزاء ..
ابْتَسَمْتُ بالرغم مني .. وتأملتُ هذا المهرجان الشعبي الطاهر الجميل الذي يحتضنه هذا الحيُّ كلَّ ليلة .. فما مرشان؟
مرشان حي يقع على هضبة في اقصى شمال طنجة .. ويُشْرِفُ ٍعلى المدينة القديمة، ومنه يُنْحَدَرُ إلى أحد أشَمِّ أبوابها.. باب القصبة ..
وأنا ابنُ مرشان ولا فخر ! ..
نشأتُ فيه مترددا بين بيوتات العائلة ومسجد مرشان .. راتعا في طريقي إلى المدرسة بين مقابر الرومان والملعب البلدي الذي ذهب مشكورا مفسحا المجال للنضرة والبهاء …
ومرشان عندي ثلاث : السكينة .. والإضاءة .. والرحابة
وهو أيضا مرشان الخضرة .. خضرة الصفصاف
ومرشان الزرقة .. زرقة المتوسط الذي نطل عليه من حجرة غنام والحافة وللا جْميلة وجبل رمل القالة (وهي مرقالة والعهدة على د. رشيد العفاقي حفظه الله)..
ومرشان الألفة التي تتردد في التحيات العالية بين الأهالي .. لأن الناس هناك لا يحبذون الزحمة .. فتجدهم في الغالب يحافظون على مسافة الجسوم وإن قربت بينهم مسافات القلوب .. بل إن بعضهم إذا مشى ليكاد أن يحك كتفه في الجدار الذي يجتهد في المشي بحذاته متحرجا من ظله..
وهو أيضا مرشان الزاوية .. زاوية سيدي عبد الله التليدي حيث أجمل قراءة للدعاء الناصري في العالم ..
وهو أيضا مرشان القهاوي التي تتمدد بجانبها في دلال حُصُرُ الصلاة تقتلعُ أشَدَّ المولَعين بالـ”بارتشي” من على طاولته إذا ما رفع المؤذن عقيرته في نخوة مرشانية داعيا إلى الصلاة .. نَغْمة الأذان نسيجُ وَحْدِها في مقاهي الباركينع وحلفطة !!.. وقراءة الإمام كأن فيها نوعا من تفسير القرآن من خلال الطريقة الخاصة التي يقرأ بها .. طريقة فيها “شي بَرَكة دْ الْحْيالَة” !!!
وهو أيضا مرشان الطرب والآلة في مقهى حلفطة كل جمعة وأحد .. كؤوس الشاي المنعنع .. وطقطقات الضادو .. وصيحات من هنا وهناك .. ونسائم “مكيفة” كرسائل مشفرة من قائد سْبْسي إلى آخر ..
وهو أيضا مرشان المهرجان المدرسي في الثامنة صباحا، والثانية عشرة ظهرا، والثانية بعد الزوال، والسادسة مساء .. جحاقل من الأطفال والأمهات والأساتذة والمعلمين .. يتداعون من قجاج الحومات .. من سبيلة الجماعة والحناط والمطافي ومن القوس والقرية والرمانة إلى وطاء مرشان .. تتوزعهم مدارس الخنساء وحفصة الابتدائيتان وإعداديات ابن اﻷبار وعائشة وقديما القصبة والزيتونة .. وثانوية زينب النفزاوية .. هناك ترى الجار الأب أوالجارة الأم يمشيان مع أطفالهما وقريبا منهم الجار الأستاذ والجار المُعيد والجارة المُدَرِّسَة وهكذا … الطفل “مرشوم” ذهابا وإيابا .. “غير يمشي نيشان والسلام”..
وهو أيضا مرشان الأذان على طريقة جبالة بما فيها من تمطيط وتحنان .. وقراءة الحزب على طريقة جبالة بما فيها من حنكة واقتدار وإبداع في احترام وقف الهبطي رحمه الله .. وقف يجيء أحيانا حاسما سريعا كضربة مدفع .. وأحيانا يبعد عن الأنفاس حتى تشرئب إليه الأعناق وتجحظ له الأحداق.. هناك أيضا طريقة جبالة في طرد الأطفال المشاكسين من المسجد .. وقد كان لي منها نصيب يوما ..
وهو أيضا مرشان المقبرة التي تعج بالحياة وتعج بها الحياة .. خصوصا يوم الجمعة حيث تباع العطرشة والماء والجريد .. ويكثر الطُّلبة المتسولون بالقرآن .. كما يكثر المنكرون عليهم ..
وهو أيضا مرشان النساء المكافحات في بيوتهن الحريصات على الاستراحة مساء في لامبالاة مفتعلة وهن يقزقن “الزريعة” ويخضن في شؤون الحياة على صخرة الحافة أو تحت ظلال الصفصاف على تخوم الملعب البلدي .. أو على أنقاضه الجميلة للحديث عن الورد القرآني الرمضاني كما حدث اليوم !!!!..
مرشان يا مرشان … أي عاصفة هوجاء أبعدتني عنك يا حبيبي؟.. لذلك أجدني أنشد مع ابن خلدون من سجنه عند السلطان ابي عنان المريني:
كَفَى حَزَناً أنِّي على الْقُرْبِ نازحٌ .. وأنِّي عَلى دَعْوى شُهودِيَ غَائِبُ
أحِنُّ إلى إلْفي وَقَدْ حالَ دونَهُمْ .. مَهامِهُ فيحٌ دونهنَّ سباسب
سلوتُهُمُ إلا ادَّكارَ مَعَاهِدٍ .. لها في الليالي الغابرات غرائِبُ
وإنَّ نسيمَ الريح مِنْهُمْ يَشوقُني … إلَيْهِمْ وَتُصْبِيني البُروقُ اللواعِبُ
والحمد لله رب العالمين