مقالات الرأي

محمد خيي:من ليوبولد فايس إلى محمد أسد .. رحلة رجل أوروبي نحو الاسلام

أسعدني بصدق ذلك الاستعراض الشيق والباذخ لقصة رجل أوروبي كرس حياته للبحث عن الحقيقة ، و سعدت لذلك التعبير الصافي عن عشق نادر للصحراء وجزيرة العرب و ايضا لذلك الإعجاب حد الثمالة بالحضارة العربية الاسلامية و ذلك الغوص الذكي في تفاصيل حياة المجتمعات الاسلامية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي … تلك هي ميزات رحلة ليوبولد فايس أو محمد أسد كما اختار هو لنفسه هذا الاسم بعد اعتناقه الاسلام …
وانت تطالع بشغف صفحات الكتاب الى النهاية ينتابك احساس غامر بالانتعاش والحيوية واشتعال الذهن بالأسئلة.
هي سيرة ذاتية غير عادية عنوانها الطريق الى مكة … تعلق بالأماكن المقدسة ، حيث مهوى الافئدة و مكان نزول الوحي و حياة النبي وصحبه . الخلاصة التي يقدمها هذا العمل الأدبي الرفيع هي رحلة رجل أوروبي نحو الاسلام ، و تصوير رائع لمسار استثنائي خطه لنفسه شاب نمساوي ينحدر من أبوين يهوديين لم تمنعه نشأته في بيئة غربية خالصة من اعتناق الاسلام كمنهج حياة …
و اجمل ما في الكتاب هو ما يتيحه لك من فرصة لاعادة اكتشاف حقائق الاسلام الخالدة ، من خلال زاوية نظر أخرى …منظور باحث غربي دفعه الفضول المعرفي اولا ثم حبه للعرب والمسلمين ثانيا الى طرح أسئلة الإيمان والوجود والمعنى ، من خلال تعابير بسيطة موغلة في العمق تقف معها على تجليات ومعاني لم تخطر على بالك كمسلم بالوراثة ، بحث في مقاصد طقوس تعبدية زاخرة بالرسائل والرموز ، من سيمائية الطواف الى رمزية تقبيل الحجر الأسود ومعنى مركزية الكعبة وقصة السعي بين الصفا والمروة و بئر زمزم …
وفي سياقات أخرى تجد الحديث المتنامي باعجاب عن القيم الأصيلة المتجذرة في ممارسات المسلمين رغم قرون التخلف الطويلة ، عن كرم العرب الفطري ، عن فضائل إيواء عابر السبيل و إكرام الضيف ، عن التوازن الروحي في الحياة ، عن بساطة العيش في انسجام ، عن الإيمان بالقدر خيره وشره ، عن القسمة والنصيب والارزاق …
توثيق غاية في الإمتاع والإفادة لرحلة طويلة حامت حول مكة والحجاز عبورا الى مصر و العراق والأردن وسوريا وإيران وليبيا ، تعرف محمد أسد على الامير ابن سعود و واكبه كمستشار خاص في سعيه لتأسيس الدولة الوليدة ، كما أحب زعماء الحركة السنوسية المجاهدة وأعجب بسعيها لوحدة المسلمين وفي ذلك الإطار التقى بالمجاهد عمر المختار في مهمة خطرة تكشف روحه المغامرة … وهكذا يحكي محمد أسد عشرات التفاصيل لرحلة اجتمع فيها بالملوك والامراء وشيوخ القبائل كما بسطاء البدو الرحل والتجار والحرفيين ، توثيق لرحلة جمع فيها بين استعمال انيق للغة رفيعة وثراء في التحليل والخيال وعمق في النظر ومنطق سوي في فهم وتفسير احداث تاريخية كبرى كان يحبل بها العالم الاسلامي ابانها …خلاصة الكلام أني أعجبت بالكتاب وصاحبه وتأثرت بمساره في الحياة ، كما لا يفوتني ان أنوّه بالمترجم المصري رفعت السيد الذي يعود له الفضل في فتح شهيتي لمتابعة القراءة بعدما كنت قد قررت غض النظر عنه بسبب ترجمة سيئة وقعت بين يدي في النسخة الالكترونية .
غير ان ما لم يحكيه محمد أسد في هذه السيرة هي رحلته التالية الى بلاد الهند وجاوا وإندونيسيا حيث التقى لاحقا بمحمد إقبال الفيلسوف والشاعر الهندي وأعجب به وتأثر بفكره وعاش معه تجربة وحلم الدولة الاسلامية و استقلال باكستان المسلمة عن الهند الهندوسية ليصبح محمد أسد فيما بعد ممثلا دائماً لباكستان في الأمم المتحدة !
وهكذا فاني اعتقد ان كتاب “الطريق الى مكة ” كسيرة ذاتية ورغم صفحاتها الخمسمائة وخمسين لا تبدو إطلاقا انها استغراق في تفاصيل شخصية او استطراد من غير جدوى بقدر ما هي تقديم رفيع لخلاصة تجربة إنسانية فريدة ، من دون شك أنصح بقراءة هذا الكتاب .

ملحوظة..المقال هو في الاصل تدوينة فايسبوكية

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق