سياسة

الرحلات الأوربية لشمال المغرب : “التعرف على المغرب” بعيون ناقدة

العاقل محمد

لعبت حركة الرحلة طيلة التاريخ البشري دورا أساسيا في انتقال القيم الحضارية و الثقافية، و انتشارها بين الأمم و الشعوب منذ أقدم العصور، مما جعل النخب الحاكمة تشجع الرحالة المنتمين إلى بلدانها على كتابة تقارير رحلاتهم. الشيء الذي أعطى للرحلة إمكانية الإحاطة بواقع البلد المزار، و أحواله السياسية و العسكرية والعلمية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و الفنية. و لهذا يمكن للباحث أن يدرس الرحلة بمقاربات و زوايا مختلفة : كونها مصدرا للتاريخ، و أثرا أدبيا و فكريا و فنيا، و وثيقة سوسيولوجية، و مصدرا لتتبع تطور الذهنيات و العقليات عبر الزمان و المكان. و بحكم أن المغرب هو أكثر البلدان العربية و الاسلامية قربا من أوربا، فإنه من المنطقي أن تتوفر له ما لم يكن لغيره من بلدان العالم العربي الاسلامي، من حيث العلاقات السياسية و الاقتصادية مع أوربا الممتدة عبر قرون، و طابع الندية الذي وسم هذه العلاقات على المستوى السياسي و الديبلوماسي خلال فترات قوة الدولة المغربية. و بهذا فإن كل هذه المعطيات التاريخية و الجغرافية انعكست بشكل مباشر على أدب الرحلة في المغرب، يمكننا إعتبار مغرب القرن 19 نتاج لمجموعة من التطورات سواء الداخلية منها أو الخارجية، فلقد شكل الاصطدام بالأجنبي محطة تاريخية استوقفت الرحالة كثيرا خاصة على مستوى نظرة الأنا المغربية للآخر الأجنبي، و التي كرست ضعف الأنا، و انهزاميته في مقابل تفوق الآخر على جميع المستويات، و استيعابه لمعطيات المرحلة، و مواكبته للتطور العالمي اقتصاديا وعسكريا، فكريا، سياسيا ……

ولقد مكث بعض السفراء الأوروبيين بالمغرب مدة طويلة. وكان منهم سفراء دائمون أحياناً. تميزوا بالكفاءة وإتقان اللغات. واستفادوا من تجارب زملائهم السابقين، ومنهم من كان له تكوين دبلوماسي وأكاديمي رفيع المستوى، سيطرت عليهم روح المغامرة، ونجح أغلبهم في الهيئة التنكرية التي تقمصوها، و منهم السفراء والكتّاب والجواسيس والعسكريون وغيرهم حسب طبيعة المهام الموكلة إليهم، وهذا خلاف للمبعوثين المغاربة إلى أوروبا الذين مكثوا مدة قصيرة تناسبت مع سفارتهم المؤقتة، ولم يكن لدى جلهم أي تكوين أو إتقان للغات، إذ كانوا يستعينون باليهود كمترجمين، وغابت عنهم روح المغامرة، فقد غلب عليهم طابع الخوف والترقب والتوجس والتردد والإحساس بالغربة والوحدة، فالعلاقات بين أوروبا المسيحية والشرق الإسلامي لها إمتداد تاريخ عميق إذ إمتازات بطابع إقتصادي حيث هيمنت المبادلات التجارية عليها منذ أقدم العصور.

فمن خلال هذه المقاربة سنعرج على بعض الرحلات التي كان المغرب وجهتها خلال القرن التاسع عشر وفق مخططات مدروسة بغية الوصول إلى دراسة البلد، هذا الأخير الذي كانت قد إنهالت عليه مجموعة من النكسات من كل الجوانب خصوصا بعد الحملة التي كان يشنها نابليون بونابارت في أوربا والشرق الإسلامي بعد أن كان قد أحكم قبضته على فرنسا وإسبانيا.

ففي ثمانينات القرن 19 كتب أحد الجغرافيين الفرنسيين وهو أونيسم ريكسيل ” onésime reclus” متحدثا عن بلاد المغرب المغرب أحد بلدان العالم المجهولة لنا إذ بالرغم من وجوده قيد كيلومترات قليلة من إسبانيا، تلك التي هي جزء من أوروبا، فإن من الأوربيين من يفخر بإنحداره من أصلاب مغاربة قرطبة وغرناطة، هذا الخطاب يحمل في طياته مذهبا متعصبا، رغم أنه إعتراف ضمني من الأوربي بجهله بالمغرب بتاتا، ما سيحدوا بالعديد من عشاق الرحلة والمغامرة من التوجه صوب هذه البلاد مشحونين من طرف دولهم ومزودين بمال وعتاد مادي وفكري لإنجاح المهمة المطلوبة. وفي هذا السياق تأتي رحلة علي باي العباسي domingo badia y leblich الإسباني وهو الذي تنكر في زي أمير حلبي وتجول في ربوع العالم العربي في بداية القرن التاسع عشر. والنموذج الثاني ممثل في شارل دوفوكو v.charles de foucauld والذي زار المغرب في نهاية القرن التاسع شرا متنكرا في زي راهب يهودي فجال البلاد ودون ملاحظاته بكل تدقيق وهو موضوع حديثنا.

بعد أن أحكمت فرنسا قبضتها على الجزائر 1830 بدأت تنظر للجار القريب منها وهو المغرب هذا الجار الذي كان يمثل لفرنسا طريدة صعبة المرام، فدخلت فرنسا مع المغرب في مناوشات بغية إختبار ردة الفعل، نتج عن ذلك معركة إيسلس 1844 والتي شكلت نكسة كبرى للجيش المغربي حيث أبانت المعركة عن ضعف المؤسسسة العسكرية للمغرب وعدم تنظيمها، فقد أزالت المعركة حجاب الهيبة التي كان للأوروبين على المغرب ذاك البلد الذي ألحق شر هزيمة بالبرتغال في معركة واد المخازن. وبخسارة المغرب أمام الإسبان1860م تأكد للأوربيين ضعف الدولة المغربة وإغتنموا الفرصة للتعرف على البلاد التي ظلت لقرون ممتنعة عنهم ولطالما إستحوذ عليهم شغفها. وفي هذا الشأن تأتي رحلة الفرنسي شارل دوفوكوcharles de foucauld الذي زار المغرب في نهاية القرن التاسع عشرا معبرا عن هذا الطرح مبرزا من خلال ما سطره من مشاهدات حرصت حكومته على إنجاحها ضمن المخطط الكبير“.

ولد شارل دوفوفكو بستراسبورغ سنة 1858م بفرنسا وسط عائلة أرستقراطية ثرية وتشتهر بعلاقاتها العسكرية توفي والده وهو لازال طفلا صغيرا تخرج من المدرسة العسكرية وهو ابن العشرين، انخرط في الجيش لمدة ثلاث سنوات أرسل سنة 1881م وهو ضابط في الثالثة والعشرين من عمره إلى كتيبة في بلدة ستيف شمال الجزائر ضمن الجيش الفرنسي المكلف بإدارة جزء كبير من الجزائر. ومن هناك سيحاول زيارة المغرب ليصل إلى مدينة طنجة يوم 20 يونيو 1883م متنكرا في زي يهودي حملا معه دفترا صغيرا من حجم 5*5 سم وقلم رصاص قصيرا يسجل به المسائل والأيام والمراحل التي قطعها، وآلة علمية للإشتغال في الميدان. إنه موضوعي ودقيق في ملاحظاته الجغرافية وبهذه الوسائل البسيطة إستطاع أن يخترق المغرب من شماله إلى جنوبه ومن جنوبه في إتجاه شرقه قاطعا مايزيد عن 3000 كلم في مدة لا تتجاوز 11 شهرا، مخترقا فيها الأودية والسهول الوعرة، مبتعدا عن المدن. وكان لإختياره هذا دواع فالمقصود هو معرفة السهول والمناطق الوعرة والقبائل وكذا اللصوص والمخزن من الخارج أضف إلى ذلك الأهالي القرويين المتوحشينإذن فما قام به الرحالة الفرنسي شارل دوفوكو charles de foucauld يعد فريدا من نوعه كونه زار مناطق متعددة من المغرب من مدن وبوادي لكننا نسجل ملاحظات هامة حول هذه الرحلة نجملهافي نقطتين أساسيتين:

أولا : بتصفحنا لها نلمس عدم التفصيل في المدن بخلاف القرى، فلا يسهب الحديث في المدن وما تحتويه من معالم عمرانية وبشرية بقدر ما يركز جل إهتمامه على الأحواز وأهلها، فكمثال على ذلك يقول بخصوص مدينة طنجة لم يكن لدي أي شيء جديد أريد الوقوف عليه في هذه المدينة المعروفة من خلال عدة كتابات سابقة فقد كنت أتعجل مغادرتها. فمحطتي الأولى لابد أن تكون مدينة تطوانيستشف من كلامه أنه كان مستعجل الوصول إلى مدينة تطوان و التي لم تذكرها الكتابات بكثرة كما هو حال مدينة طنجة، فالرحالة يبحث عن الجديد ويبتعد كل البعد عن الأشياء المألوفة فيا ترى لما هذا الإصرار؟؟؟.

وبخصوص وصفه لمدينة تطوان سنجده يستطرد بإقتضاب لمكونات المدينة حيث وصف الحانب الإقتصادي للحي التجاري، وقال بأنه ينتعش يوم الأربعاء. ويصف الملاح اليهودي في تطوان، فرغم الإعجاب الكبير له بالمدينة إلا أنه يصرح بأنها لم تكن ضمن مخططاته، فمكوثه بها لمدة 10 أيام كانت بسبب الصعوبات التي وجدها في العثور على مرشد ليوصله لفاس عبر طريق سطره مسبقا. ولكننا نلمس في الرحلة صدى عميق لأحواز المدن والبوادي الواقعة بين مدينة وأخرى، فنجده يدقق في الطرق والقرى وصداها داخل الحواضر المغربية الكبرى. ويهتم كذلك بالتنظيم السياسي والعلاقات التي كانت تربط القبائل بدولة السلطان، وهذا ما يجعلنا نتساءل حول هذا النهج الذي يسلكه، فلما كان يقصد الطرق الوعرة ؟ ولما كان يخترق الوديان والأنهار؟ ولما كان يتساءل دوما عن معاملة المخزن لهذه الأحواز؟ هذه مجموعة من الإشكالات تبرز أمام قارئ الرحلة وتضعه في حيرة من أمره، فسلوكه هذا المنوال يوحي لنا بأنه كان يحاول معرفة قوة المخزن المغربي في هاته البوادي، ومراقبة المخزن من خارج أسوار المدن هذا من جهة، ومن جهة ثانية تسهيل المأمورية في معرفة بنية البادية المغربية وطرقها كي تستغل كنقطة تفوق لصالح دولته. فنحن نعلم أنه ضابط بالجيش الفرنسي وأوكلت له مأمورية الرحلة، أي أن الرحالة بمثابة تقرير عسكري عن الأوضاع العامة بالمغرب خلال هذه الفترة، لذا سنجده في سنة 1884م وعلى اثر انتهاء الرحلة وتحرير الكتاب، تلقى شارل دو فوكو تنويها وميدالية ذهبية من قبل الجمعية الجغرافية بباريس“.

إلا أننا نطرح سؤالا عريضا حول عدم خوضه في قبيلة أنجرة؟ رغم أن القبيلة تقع في المجال الذي يربط بين مدينة طنجة وتطوان فنجدها مغيبة في نص الرحلة فلما هذا التغييب؟ هل لأن شارل دوفوكو كان يعلم أن قبيلة أنجرة متمردة؟ أم أنه كان خائفا من اللصوصية والنهب التي كانت القبيلة مرتعا له في أواخر القرن19م؟ أم أن الأصداء التاريخية للقبيلة في أواسط القرن 19 م كان له دور في تفاديه المرور منها؟

إن ما كانت تعرفه قبيلة أنجرة من تحولات وإضطرابات جعلت لاشك شارل دوفوكو يبتعد قدر المستطاع عنها، ففي هذه الفترة كان مشروع مد خط سلك التلغراف مطروح بين المخزن المغربي والبريطانيين والإسبان، وكانت لقبيلة أنجرة دور كبير في تعطيل هذا المشروع، حيث كان رفض مد أسلاكه على أرض القبيلة باد للعيان ما أدى لتخريبه من طرف بعض الأشخاص.

الملاحظة الثانية التي يمكننا تسجيلها أيضا على هذه الرحلة هي حملها لإزدواجية في الخطاب وخاصة فيما يتعلق بالجانب التنظيمي فنجده يحاول تكريس مفهوم بلاد المخزنو بلاد السيبةفي أكثر من موضع، فعلى سبيل المثال في وصفه للطريق الرابطة بين طنجة وتطوان قال الطريق آمنة خلال النهار، لم تبق كما كانت عليه عند غروب الشمس، الفرسان الخيالة، مدججين بالسلاح، يأخذون مواقعهم عند أبواب القرى، قرب قطعان الماشية على ربوات يراقبون المحاصيل الزراعية من فوقها. يعكر الجوالة حياة الفلاح الضعيف، خاصة في بلاد المخزنفهذه الإزدواجية لم يكن هو الوحيد الذي تبناها، وإنما سنجد مجموعة من الباحثين بعده يتبنونها ومن أبرزهم رواد البعثة العلمية بطنجة من أمثال ميشو بليرو روبير مونطانيوجاك بيركوغيرهم. فالمغرب في الوعي الكولونيالي الفرنسي كان مزدوجا، لكن هذا التقسيم غير دقيق يقدم فكرة مغلوطة عن المغرب، من الأكيد أنه توجد في المغرب مناطق خاضعة ومناطق غير خاضعة، بيد أنه من العسير تحديد دقيق لبداية منطقة ونهاية أخرى، ومن المستحيل العثور على حدود تفصل بين بلاد السيبة وبلاد المخزن. مما يجعلنا نتحدث عن نسق القبيلة بالدرجة الأولى. فشارل دوفوكو اهتم بالبيئة الطبيعية، فوصف التضاريس والغطاء النباتي ومجاري المياه. واهتم بالسكان، فذكر القبائل ووطّنها داخل المجموعات الكبرى. ووصف الموارد، ومستوى عيش السكان، وأنماط عيشهم. و توقف عند عادات المناطق التي زارها، فسجل معطيات حول البناء واللباس والغذاء. ولكنه أغفل مجموعة من الأنشطة التي كانت تقام داخل أسوار المدن من حرف ومهن فلما هذا الإغفال؟ سؤال لا نجد له جوابا، فعلى سبيل المثال مدينة تطوان كان بها من الحرف ما يشفي ويكفي ولكنه لم يذكرها فنجده دائم التركيز على مجتمع البادية المغربية.

لقد صرف شارل دوفوكو جهوده كلها في التركيز على سلك الطرق الوعرة والغير معروفة لدى الأوروبيين، رغبة منه في وضع خرائط دقيقة للمسالك الوعرة في المغرب، وهذا هو مبتغى الرحلة حيث أنها ستمثل تقرير عسكري شامل للمغرب من الناحية الجغرافية والطبوغرافية، وبخصوص الطرق يعلق الأستاذ عبد الأحد السبتي بقوله طريق السفارات، وهو محور ينطلق من مدينة طنجة، مقر دار النيابةوالقناصل ممثلي الأجناس، ثم تتجه إلى إحدى عواصم السلطان، في شمال المملكة أو جنوبها. ولهذه الرحلة إيقاعها، وترتيباتها، وطقوسها. وهي في الغالب رحلة نمطية، من حيث مسالكها، ومحيطها البشري، فطريق المستكشفين، من فرنسيين، إسبان، وأنجليز، وألمان. اختلفت ظروف هؤلاء، وحوافزهم، وعلاقاتهم مع مؤسسات بلدانهم. غير أن قدرا من المغامرة، والخروج عن المسالك الرسمية كانا يشكلان القاسم المشترك بين هؤلاء الرحالة و المؤلفين الذين تركوا نصوصا صمدت حتى الآن بفضل حجم وأهمية المعطيات التي سجلتها. ذلك أن الرحالة انتبهوا لجوانب لم تكن تثير فضول المؤلفين المغاربة في ذلك العصر، بيد أنها أصبحت تثير اهتمام الباحث في مجالات مثل تاريخ المجتمع والحياة اليومية

كان هذا من بين أهم الأهداف التي سطرت للرحلة، وتبعه بعد ذلك مجموعة من الرحالة الأوروبيين، ولكن تبقى رحلة شارل دوفوكو لها خصوصية تميزها عن باقي الرحلات سواء السابقة لها أم التي أتت بعدها. فالترتيبات التي سبقت الرحلة كانت تنم عن ذكاء ودراسة مدققة، وتبنى دوفوكو فكرة التنكر واستعارة الهوية اليهودية. لم يكن هذا التنكر يعني الاندماج في الأوساط اليهودية بالمغرب، أو حتى التعاطف مع ساكنة الملاحات، بل تدل بعض المؤشرات على تحفظ الرحالة الفرنسي وتبنيه لعدد من الأحكام السلبية إزاء هذه الجاليات. بيد أن الهوية المستعارة كانت عنصرا امنيا وعمليا بالأساس، إذ بفضلها تمكن دوفوكو من الاشتغال وتسجيل ملاحظاته الجغرافية الدقيقة بعيدا عن الأنظار المتشككة. ومن أجل نفس الهدف، تعلم دوفوكو اللغة العربية، وقدرا من الأمازيغية، ونزرا يسيرا من العبرية. وهذ يجعلنا نتسأل هل إطلع دوفوكو على رحلة علي باي العباسي والذي تنكر قبله. فهذا الأخير كان قد تم التشكيك فيه وتعرفوا على شخصيته الحقيقة بخلاف شارل دوفوكو الذي أتم مهمته بسلام في المغرب وغادره أمنا مطمئنا حملا معه مسودته التي سجل فيها كل الملاحظات ومنها إعتكف على إخراجها في الشكل النهائي والذي وصلنا فسماها بالتعرف على المغرب” reconnaissance au maroc”

 

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق