مقالات الرأي

محمد ابن ادريس العلمي :في مواجهة العاطفة

طفت مؤخرا العديد من النقاشات السياسية التي تظهر حركية غير مسبوقة في تتبع الشأن العام والتفاعل مع القضايا المحيطة والمرتبطة بالمجتمع في مختلف جوانبها الاقتصادية والاجتماعية… ومن أبرز السياقات التي تحكم هذه النقاشات مرحلتين انتخابيتين بارزتين، أولا: انتخابات 4 شتنبر 2015 التي جاءت في سياق تنزيل القوانين التنظيمية الجديدة لكل من الجهات 14-111 والعمالات والأقاليم 14-112 والجماعات المحلية 14-113 وثانيا: الانتخابات البرلمانية لسنة 2016 والتي ستفرز لنا حكومة جديدة خلفا لحكومة الأستاذ عبد الإله بن كيران.

وتعتبر المحطة الانتخابية القادمة اختبار حقيقي وصراع أيضا واضح وصريح بين تيار الإصلاح والإفساد. هذه النقاشات التي تنتج لنا خطابات مغايرة ومختلفة منها ما هو منطقي عقلاني غير خاضع للحسابات السياسية الضيقة أو للأهواء الجارفة وخطابات لحظية تستجيب للخلفيات إما الإيديولوجية أو لأغراض انتخابية مرحلية، وهو ما يستدعي توضيح العديد من النقاط التي على المتتبع الذي يعطي لنقاشات الشأن العام قيمة في هدوء تام وتركيز يستوعب القارئ من خلال ذلك الخلفيات والسياقات التي تحكم كل القرارات المتخذة من طرف الحكومة أساسا؛ ولنا في هذه المقالة بعض الأمثلة التي سنركز من خلالها على مطلب الأساتذة المتدربين باعتباره من أقوى المطالب السياسية أقول وليس القانونية التي يهتم بها المجتمع اليوم، والتي شهدت الكثير من الأحداث التي استدعت التضامن والوقوف ضد كل ممارسة خارج القانون ومنها التعنيف الذي طال الأساتذة المتدربين بعدة مراكز بعد التدخل اللامسؤول من طرف السلطات المحلية.

في الابتداء لا بد من التوضيح أن إقامة العملية السياسية على فقدان الثقة لا يخلف لنا رؤية واضحة عن هذه العملية، وبالتالي الاستجابة للقرارات السياسية عن طريق الثقة يعطي لها قيمة مضافة بالتأكيد على ضرورة الحفاظ على هذه الرؤية المنطقية المنصفة الغير الخاضعة للحسابات؛ والتي تفقد جوهر التقييم والتقويم أيضا. فاعتقادنا أن الشعب المغربي صوت لصالح حزب العدالة والتنمية ووضع ثقته الكاملة فيه وقد أكدت الأيام صدق ونزاهة منتخبيه، ذلك يفرض علينا الإيمان النقدي بأن القرارات التي تتخذها الحكومة هي منطلقة من وعي الإصلاح ولا تستهدف مصالح الأمة؛ لأنها في نهاية المطاف من الشعب وإلى الشعب ولصالح الوطن .. لكن في نفس الوقت قد تكون الرؤية الحقيقية غائبة عن الحكومة نفسها ويستدعي الأمر انطلاقا من الخطابات السياسية لها أن نشاهد اهتزازا فيها، فنلاحظ بالمباشر أن هذا القرار لم يستفد من الحيز الكامل له بالتالي نجد أن السلطة تعمل على مراجعته ذاتيا وفقاً للمساطر المعتمدة. وكم من القرارات التي راجعتها الحكومة في ولايتها. وهناك بعض القرارات الحاسمة والتي تدخل في سياق إصلاحي طويل المدى وشامل لا يَنتُجُ عنه خطاب سياسي مهتز وتصر الحكومة بعد توضيحها لمعطيات تنزيل هذا الإصلاح ببعد تشاركي على الانطلاق في ورشه دون رجوع أو تحايل مهما كان الثمن؛ استجابة لمطالب سياسية وانتخابية خصوصا في مرحلتنا الراهنة، وهو ما يتطلب منا الدفاع عنها ضدا على هذا الاستغلال البشع التي تمارسه بعض الأطراف دون منطق أو عقل بل عن عاطفة جياشة تظهر الأفق المسدود لتلك الأطراف. أو تبين أن مصلحتها في تكسير أن إصلاح حقيقي يقوم به الآخر ولو استدعى ذلك إقامة الدنيا بالعراقيل والمشاكل العويصة المستعصية.

لا بد من التنبيه إلى أن الخطابات السياسية التي تبنى على قرارات تنفيذية تكون واضحة اللهجة وقوية السند ولا يمكن التراجع عنها ولو كانت تمس شريحة مهمة من المجتمع لأن منطق السياسة المفصول عن الضريبة يكون مشبوها ولا يحقق الإصلاح المرجو، بالتالي كانت لهجة الأستاذ بن كيران واضحة عندما قال بأن بعض الإصلاحات ستضر بشعبيته وشعبية حزبه ومع ذلك  الحكومة مصرة على تنفيذها، ولا يفصح عن هذا الخطاب سياسوي عاقل لأن مصلحته فوق مصلحة الوطن وهؤلاء يقدمون لنا أنموذجا معكوسا سيسجله التاريخ لا محالة.

إن معالجة القضايا المصيرية بنفس عاطفي لحظي يستدعي منا مراجعة الأولويات التي نفكر بها وتتطلب أيضا توضيحا لكل الخلفيات التي صنعت تلك الرؤية بعيدا عن التضليل أو الإيديولوجيا أو الحسابات السياسية الانتخابية لأن توظيف العاطفة في تجييش الآراء المساندة يخلق حالة من الانهيار لحظة فشل هذه المطالب التي يُنَاضَل عليها مما يسبب انهزام أخلاقي سياسي في المجتمع لأن الدولة لا أخلاق لها أو ليس لها قلبٌ كما يقولون. وتصبح النظرة إلى الدولة “الكافرة” في اعتبارهم مقيتة انطلاقا من معطياتهم الخاطئة.

لا يمكن للعاطفة أن تواجه الدولة ولا يستدعي ذلك تبسيطا إذ أن استخلاص المواقف من منطلق أخلاقي بحت لا يراعي الخلفيات التي تنطلق منها المؤسسات الصانعة للقرارات يفسد الرؤية المتوازنة التي تفكر من الداخل ومن الخارج وليست في إطار محدود. وأعتقد أن بلورة صورة واضحة عن المشاكل وآفاقها يستدعي بسط جميع الأوراق التي ترتبط بالمشكل، وتوضيح جميع الملفات بدون التفات إلى المصالح البراغماتية الضيقة لأن ذلك سيخلق في نظري وسيفتح فرصة أولا للتنازع حول هيبة الدولة وفي نفس الوقت سيشكل مدخلا للبحث عن طريق لتمرير المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة.

القضية اليوم في الشارع المغربي والتي استرعت اهتمام العديد من الأطراف إذا قاربناها من هذا المنطلق، سنجد أننا نضع العاطفة في كفة والدولة في كفة الأخرى ونصرخ بأعلى صوت على الدولة أن تتنازل لصالحنا لأنها أولا مسؤولة على توظيفنا وثانيا لأنها تحرم شريحة واسعة من أبناء الشعب المأزوم من الاستفادة من عدم فصل التكوين عن التوظيف لأنه حق الجميع. أقول أن مما سوق له الإعلام الافتراضي خصوصا ومن يريد أن يستولي على عقول القائمين على معركة فاشلة من البداية هي البرغماتية الضيقة التي يفكر بها هؤلاء، فإذا انطلقنا من مدخل الثقة فلا يمكن أن تسعى الحكومة أساسا إلى مصلحة خارجة عن مصلحة الأمة ولو كان ثمن ذلك غاليا. النقاش اليوم يدور حول فصل التكوين عن التوظيف وفصل الإدارة عن التدريس لتصبح كل مؤسسة لها وظيفتها الخاصة في التكوين والتدريس والإدارة بناء على متطلبات الدولة بحسب المناصب المالية المتاحة. ولا يمكن أيضا أن تفتح الدولة مناصبَ مالية فوق طاقتها. وإذا ما تم التفكير من منطلق حاجة الفرد من مجموع الأمة خارج إرادة وعقل الدولة التي لا قلب لها بناء على معطيات أخلاقية لحظية فهذا من العبث الذي يجعل العديد من التيارات المسدودة الأفق التفكير من الداخل تغوي شريحة واسعة من الأساتذة المتدربين للسعي قدما في معركتهم الغير المعقولة بتاتا “ويعرف الجميع أن المعارك النضالية في العادة تقودها قلة والباقي تبع لسلطتهم الكلامية واللفظية”. وأشير في نهاية هذه الفقرة إلى أن مطلب الأساتذة من الناحية القانونية فاشل لو تم تقديم دعوى إلى المحكمة الإدارية لأن الاستناد على تاريخ صدور المرسومين في الجريدة الرسمية ليس مبررا قويا مع صدور بلاغ 25 يوليو 2015 وفارق ثلاث أيام بين تاريخ الصدور وتاريخ إعلان النتائج لا اعتبار له قانونيا، بالإضافة إلى أن 70 في المئة من مجموع الأساتذة المتدربين سيصبحون أساتذة تأكيداً ولا يقبل المنطق أن تقف أقلية ضد مطلب الأغلبية الذي يمكن لها أن تفقد هذه الوظيفة لو تم إلغاء هذين المرسومين مثلا أو إعلان سنة بيضاء. وأخيرا فصل التكوين عن التوظيف يعطي فرصة لانتعاش مراكز التربية والتكوين أولا ثم يحدد الاختيار إن كان مراد الفرد هو ولوج التعليم ينخرط في التكوين لذلك مهاراتيا وبيداغوجيا، وكذلك الشأن بالنسبة لسلك القضاء وغيره وليعلم الجميع بأن الجامعة ليس فضاء للتكوين وإنما مجالا للتعريف الأولي.

السياسة تراكم أخلاقي طويل المدى وأخلاق السياسة محصورة في الثقة النقدية والبعيدة عن ضلال التهور، والحاجات الفردية لا مكان لها داخل مجموع الأمة ولو كان ذلك على حساب الشعبية وفقدان الأصوات الانتخابية لأن ذلك في اعتباري لا يغير شيئا في كفة التصويت لأنه إدلاء غير مسؤول في نهاية المطاف. المعركة اليوم ضد الفساد من أجل الإصلاح ودرء للمفاسد من أجل جلب المصالح، واصطفاف الخير مع الخير والشر مع الشر ولو كان بصورة غير مباشرة، ودفاع أيضا عن المعاناة في تنزيل الإصلاح المطلوب ولو كان على حساب الحكومة والحزب لأن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق