سياسة
فيصل الأمين البقالي: الكوكب الأزرق العجيب
فيصل الأمين البقالي
على هذا الكوكبِ الأزرقِ العجيب .. بدأت تتشكَّلُ ملامحُ للاجتماع وقواعدُ للعمران خاصة .. فظهرت معانٍ مبتكرة للولاء والبراء .. والاحتفاء والازدراء .. والتناكث والاصطفاء .. وبدأت تظهرُ أدبياتٌ جديدة للمجاملات والمصانعات .. والزعامات والكاريزمات .. وضروب في الهمز واللمز .. وأساليب في بسط العبارة وطيِّ الإشارة .. إلى غير هذا مما يحفل به هذا العالم الرقمي المشرف بنا على الإدمان .. غير أنّ هذه الأساليب في مجملها ليست إلا تجليات للشخصيات الحقيقية لأصحابها ومنازعهم في حياتهم الواقعية .. فكأنها أقنعة فوق أقنعة وتحت أقنعة .. تُسقِطُ قناعا لتُبْدِيَ قناعا .. وتَضعُ قناعا لتَحْجُبَ قناعا .. فتكاد لفرط إسقاط وحَجْبٍ أن تُسفِر عن الملامح وتُعَرِّيَ القسمات .. على رأي زهير بن أبي سُلمى:
“ومهما تَكُنْ عندَ امْرِئٍ من خليقَةٍ * وإنْ خالَها تَخْفَى عَلَى النّاس تَعْلَمِ”
على هذا الكوكب الأزرق العجيب .. اكتشفنا جمالا في أرواح كثير من إخواننا وأصدقائنا .. فقد ألفى به خجولٌ تمتامٌ سعةً للتعبير وقدرةً على التحبير، فكشف عن معدن نفيس وقريحة ألمعية وجدت طريقا إلى التنفيس .. وكم من صاحب ذهنٍ وقّاد ورأيٍ يُسْتَفاد، عرفناه على هذه الآكام الزرقاء كان مغمورا .. فصار بيننا مشهورا .. وكم من خبر كان مَطْوِيا فبات مَجلِيّا .. وكم منطقة في وعينا الجمعي كانت مجهولة فأضحت مأهولة .. وكم من أباعد في الرَّأي والذَّوق أو هكذا ظنّوا، اكتشفوا قرابةً في الأذواق والأشواق .. فوَطّدوا قريبا وقرّبوا بعيدا .. ونفوا شيطانا من تباغضهم مَريدا .. وكم من فتىً تخالُه وثيق الجِسْم أو كبير السن أو عظيم الجاه لضخامة روحه وإشراق قلبه فإذا لقيتَهُ يوما رأيتَ الجسدَ النحيل، والجسم الهزيل .. فتعلمُ صِدْقَ العربِ قديما حين قالوا: “المرءُ بأصْغَرَيْهِ قلبِه ولسانِه”.
على هذا الكوكب الأزرق العجيب .. تَيَسَّرَ تواصُلُنا مَعَ ذوي الفَضْلِ العتيد مثلما كان فضاءاً اكتشَفْنا فيه ذوي الفضل الجديد .. وهل أجمل من أن تشعر بقربكَ من أديبٍ لبيب، أو عالم أريب، أو داعية حبيب، أو طالب علم نجيب، أو سياسي مستجيب، أو رجل من أهل الله ذاكر منيب؟؟ .. جُمِعوا لك على هذا الصعيد كأنّهم جاؤوك طُراًّ إلى مقهى الحي أو ناديه تنشَغِلُ عنهم تارة، ثم تَحينُ التفاتةٌ فتحيةٌ منك إليهم أو منهم إليك تارةً أخرى .. أو كأنَّك تقوم إلى سُدَّةِ القَهوجي لبعض شأنك، فيكون سلامٌ وكلامٌ وقَضاءُ مُرام .. أو لا يكون شيءٌ من ذلك إلا أنَّهم هناك على عينك، قربُهم يَعْدِلُ الميزان، ويؤثِّثُ المكان، ويبثُّ المعنى في الزمان .. وما أجمل أن تنشُرَ بعض ذَوْبِ قلبِك نثرا أو شعرا فيَمُرُّ عليكَ الحَدَثُ الشابُّ العذري القلبِ، وبجانبه شيخٌ من شيوخ العلم والحكمة كلاهما على صعيدٍ واحدِ يتفاعلان، فتعلمُ أنه الإنسان فيهما يَجيش ويَخِفُّ إلى المعنى المُداعِبِ سُوَيْداءَ القلوب ..
وعلى هذا الكوكب الأزرق العجيب .. اكتشفنا عُقَدا وأمْراضا أو “باثولوجيات” -بتعبير صديقنا الأستاذ مصطفى أقبيب متّعه الله بالصِّحّة- .. فهذا دائرٌ في فَلَك ذاته .. وهذا لا شأن له إلا لَمزُ عُداته .. وهذا مُتضخِّمُ الأنا بَيِّنُ الوَنى .. وهذا لا تكاد تمسّه حتى ينطقَ بالخَنَى .. وهذا يَحْسَبُ كل صيحةٍ عليه .. وهذا أنِسَ في أعماقه حَقارة وصِغَرا، فعَمَدَ إلى من يراهم كبارا يُكيلُ لهم صنوفا من التُّهَم والشَّتائم .. وهذا ظنّ نفسَه شيئا فصارَ لا يرى نَقدا موجَّها إليه إلا حَسدًا لـ”مسيرته المظفَّرة” وغيرَةً من “نجاحه الباهر” .. وهذا وجد منبرا فاعتلى يصيح كأنه “الحمقاء قالوا لها زغردي” بتعبير المثل المغربي .. وهذا إذا أفْطَرَ أخْبَرَ .. وإذا تَغَدَّى بَشَّر .. وإذا غَضِبَ كَشَّر .. وإذا نامَ سَمِعْناهُ إذا شَخَّر ..
وعلى هذا الكوكب الأزرق العجيب .. ظهرت عملة “اللاّيكات” وعقارات “المتابعات” وأملاك عدد “الأصدقاء” يفرح بها الجميع فِطْرةً، و يتباهى بها صغارُ العقول خِفّة.. بل صارت عدوى تطير في هشيم الكلمات إلى أعماق النفوس .. ومن قال “عملة” قال “مال” ومن قال “مال” قال بخلٌ وكرم .. وشِبَعٌ وقَرَم .. وفرحةٌ ونَدَم .. وذلةٌ وشَمَم .. وطمع وزُهد .. وحبٌّ وحِقد .. وبهذا المال يرمي البعض بإعجابه حتّى قبل أن يرى أو يقرأ، في تضامن لا مشروط، وولاء لا محدود .. وهذا يترصّدُ غيره ليَقْبِسَ دون حياء، وينسُبَ لنفسه في خُيَلاء .. نفسٌ صغيرة وطفلٌ في الأعماق مقهور!! .. وهذا يُحِبُّ أن يَرى ولا يُرى، فلا يُعطي ولا يأخذ، لسان حاله: “فَإنْ تَجْتَنِبْها كنتَ سِلماً لأهلها” على قول الإمام الشافعي رضي الله عنه .. وهذا يتظاهر بأنه لا يتابع أحدا كِبْرًا ما هو ببالِغِه، ولا يُعْجَبُ بأحَدٍ ذهابا بنفسه، ولا يُعْطي نقودَه/”لايكاته” إلا قليلا .. فهذا كقول الأخطل: “قومٌ إذا اسْتَنْبَحَ الأضيافُ كلبَهُمُ .. قالوا لأمّهِمِ: بُولي على النّارِ!!.. فتُمْسِكُ البَوْلَ بُخْلاً أنْ تَجودَ بهِ .. وما تبولُ لهم إلا بمقدارِ !!”
وعلى هذا الكوكب الأزرق العجيب .. كنتُ أظنُّ كثيراً من العقد التي ألاحظها أمرا هَيِّنا محصورا في دوائر بعض مراهقي الأفكار و المواقف (وهم بالمناسبة ليسوا بالضرورة في سن المراهقة)، فإذا به موجودٌ حتّى عند بعض من نظنُّهُم ذوي أحلامٍ وعُقول .. فهذا يرى أنه أكبر من أن يدخل إلى صفحة غيره أو أن يتابعه كما أخبرني أحدهم منذ أيام .. ربما لأنه يرى أن “الكبار” يتابَعون ولا يُتابِعون ويُعجَبُ بهم ولا يُعْجَبون بأحد!! فعجبتُ غايةَ العجب من دهاليز هذه العقد!! و هذا يقرأ ما يُكتب ثم يتظاهر بأنّه لم يرَ ولم يقرأْ، فإذا نَشْنَشْتَهُ فضحَ مقالُه ما أخفاه حالُه .. وهذا يقاطعُك فيقاطعُ حقّكَ وباطِلَك حتى إذا ما احتسيتما شرابا “فيسبوكيا” أو حقيقيا، أو اقتسمتما طعاما إلكترونيا أو واقعيا، عاد يرُشُّ عليك من عملة “اللايكات”، ويعرض عليك من عقارات “الصداقات” .. وربما زادَ ففَتَحَ لكَ في دكانه “فيترينة”/واجهة المشاركات .. ونحن إنما “نَعْرِفُ الحقَّ بالحقِّ ولا نعرِفُ الحقَّ بالرّجال” .. ونرى القولَ نُعْجَبُ به لِذاتِه لا لِذاتِ قائِلِه .. ونغضَبُ حين نغضَبُ لله لا لحماقات خلق الله .. وهذا بابٌ من الإنصاف عزيز .. ولكنه من كمال العقول ونقاء القلوب .. وعلى رأي المتنبي “وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ رَأى غَيْرُه مِنْهُ ما لا يَرى” … فاللهم بَصِّرْنا بعيوبنا وعَرِّفْنا مقادير نفوسنا حتى لا نكونَ كماشي الخَيْزَلى عارياً إلا من غروره..
وعلى هذا الكوكب الأزرق العجيب .. صِرْنا نَنْكَشِفُ لآلهَتِه المُمْسِكينَ بتلابيب ومضات اللوغاريثمات في أوصاله .. نَنْكَشِف لنَنْكَسِف .. شموسَ حرية واستقلال.. ونَنِكَسف لنَنْتَسِف .. مشاريعَ استنقاذ لتنميط وتشييء بني الإنسان .. لنا دورٌ وضيعاتٌ نَحسَبها .. بنيناها في الخيال بماء العيون وأوقات الأعمار وحجارة المفردات، ولهم خراجُها مَعْرِفَةً بنبضات الفؤاد، في أفق تسخير قطعان “العباد” .. لذلك دعا دعاتُهم مِمَّن يعرفون الخَبايا، وما تُخفي الزوايا من صنوف الرزايا، إلى مقاطعة هذا الكوكب والحذَرِ من الزَّلَق على آكامه وجعلوا ذلك لهم أمَّ القضايا ..
وعلى هذا الكوكب الأزرق العجيب .. مدت أسواق تصدى لها العارفون بقيمة كثرة الأقدام .. أَوَ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أطلبوا الرزق حيثُ تكثر الأقدام”؟! فههنا ملايينها وإن اتخذت الأنامل أقداما، واللوحات أرْآما، والفأرات سناما .. يلهو الغافلون ويستغرقهم قيل وقال .. ويربض هؤلاء متحينين فرص الرزق كما يربض النمر ويتحين الصقر .. فكانت زرقة هذا الكوكب لهم كزرقة البحر الزاخر، وهم فيه ذاهبون كالفلك الماخر ..
فضاء أزرق .. وما أبلغ وصفه بالأزرق .. والزرقة في سيمياء اللغة تحيلنا على السماء بما تعنيه من نقاء وسعة .. وقد تحيلنا على البحر بما يعنيه من عمق ورحابة وغموض وسحر .. ولكنها قد تحيلنا أيضا على زرقة الطبع والفؤاد بما تعنيه من لؤم وصغر ونزق وخرق .. فضاء أزرق له من اسمه نصيب شانه في ذلك شأن غيره من المسميات .. على رأي الشاعر العربي القديم :
وقَلًّمَا أبْصَرَتْ عيناكَ ذا لَقَبٍ .. إلاَّ وَمَعْنَاهُ إنْ فَكَّرْتَ في لَقَبِهْ
هذه إذن ملامِحُ من حياةٍ افتراضية زاحفَة .. وكلماتٌ في شأنها واجِفَة .. عساها تَلقى تُربَةً طريَّة فتُنْبِتَ المعنى .. وأرضا رَخْصَةً نَقِيَّةً فتُثْمِرَ السلوك .. والله الموفق للخير .. آمين.