مقالات الرأي

خالد العياشي.. المأزق السياسي

من حسنات الاجتهاد في القضايا الخلافية جعل الخلاف قضية اجتهادية، وهو – أي الخلاف – بهذا المعنى لا حقيقة مطلقة فيه وإنما النسبية هي ما تحكمه لارتباطه بظروف الزمان والمكان والشخوص والأحداث.

مدعاة هذا الاستهلال، هو الرأي الاجتهادي الأخير للأستاذ امحمد جبرون والذي بسطه في مقال “البيجيدي ومواجهة التحكم… في الحاجة إلى التخلي عن أطروحة الانتقال الديموقراطي”.

الخلاصات التي انتهي إليها صاحب المقال صادمة ومفاجئة وبشكل أقرب أن تكون خارج السياق، على اعتبار أن الظروف المستحكمة في النسبي لم تتغير بعد.

وأعتقد  أن اجتهاده لم يكن كذلك بالنسبة لحزب العدالة والتنمية فقط بل حتى “للتحكم” كطرف أصيل في الصراع السياسي الحالي،والأكيد أنه كان كذلك حتى بالنسبة لكل مهتم بالسياسة، اهتمام الفعل واهتمام التنظير. وهذا ما تجسد في تنوع الردود لأكثر من طرف، وربما من سخرية الأمر أن لا نسمع “للتحكم” رأي في الموضوع، لأنه بحال لا يعدم منظريين وممارسين. والسؤال: كيف نترجم هذا الصمت؟هل هو صمت الاقرار أو صمت الذهول  أو صمت الحكمة؟

فماذا رأى الأستاذ ولم يره الآخرون؟

اجتهاد الأستاذ امحمد جبرون كشف واقعا مكشوفا، وأبرزالمآزق السياسية التي تلغم الحياة السياسية، لكن الاختلاف يكمن في كيفية تجاوزها…ويمكن تحديد ثلاث مآزق وسيجد القارئ ترابط قوي بينها على اعتبار وحدة النتيجة والعوامل.

المأزق الأول: وهو ما يمكن أن نعبر عنه بالبون الذي يضيق ويتسع بحسب الظروف بين المقتضى الدستوري والحياة السياسية الواقعية، في حين أن المطلوب هو الاعلاء من قيمة المقتضى الدستوري بما يستحقه من تبجيل واحترام، وأن المطلوب اليوم من “الواقع” أن يرتفع ولو لمرة واحدة في حياته، وأن يسمو ليلامس المقتضى الدستوري.

المطلوب إذن التمسك بالدستور كوثيقة كحالة اثفاقية، وأننا بهذا المعنى يجب أن نتخلى- إن كان المطلوب التخلي عن شيء – عن أي حساب يخرجنا من الدستور أو يخرج الدستور منا. والمقصد هنا استبعاد حساب المراهنة على المجهول والأحلام الأقرب للكوابيس، وحساب الفئة المتعالمة التي تعوزها القدرة التنظيمية والإمكان البشري، وحساب الفئة العاملة في إطار الدستور المتنعمة بمغانم المرحلة بالطرق الملتوية. وهذه لعمري خصيصة مغربية متفردة في أي مشهد سياسي في العالم أن يتحالف الفساد السياسي مع الحالم المثالي الديموقراطي، لمحاربة النموذج المتمسك بتوابث الدستور و مبادئه وقيمه. وهنا تبرز إحدى اختلالات اجتهاد الدكتور إذ يغيب تماما ما استجد دستوريا والأمر يتعلق هنا بتلك الإضافة النوعية والعددية  المتضمنة في الفصل الأول من الدستور والتي جعلت من الاختيار الديموقراطي من الثوابت الجامعة التي تستند إليها الأمة في حياتها العامة، كالدين الإسلامي السمح والوحدة الوطنية المتعددة الروافد والملكية الدستورية…

وعلى اعتبار المعنى الذي خلص إليه الأستاذ  في كون التحكم طرف نقيض مع الديموقراطية يمكن القول معه أنه لادستوري.

يستتبع من هذا التحليل أن كل طرف سياسي مدعو إلى الالتزام بالدستور كخارطة طريق بما يتضمنه من مرتكزات وثوابت وقيم ومبادئ. وأنه ضمانتنا في أي إصلاح واستقرار.

المأزق الثاني: أن كل قوة سياسية إصلاحية حقيقية إلا وتجد نفسها وحيدة أو شبه وحيدة في مواجهة الخيارات السياسية الأخرى، وأنها بهذا المعنى تظل مرهونة بمحددات ثقنية لها فعلها، بدءا من اللوائح الانتخابية والعتبة والتقطيع الانتخابي وسلطة الاشراف الانتخابي وتمويل الحملات الانتخابية… ولا يمكن بحال ربح هذه المواجهة والمراهنة إلا بوعي سياسي غير متيسر إجمالا لكنه يكون دالا أحيانا أخرى وهو ما حدث مع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في 1997 و مع العدالة والتنمية في 2011 بمناسبة الانتخابات التشريعية وفي 2015  بمناسبة الانتخابات الجماعية.

يستتبع من التحليل السابق القول أننا لا نعدم الارادات الحسنة وأن مصلحة البلد مرهونة بالكتلة التاريخية الموعودة وإن كان الرهان على “البديل” للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ولليسارالاشتراكي الموحد ولحزب التقدم والاشتراكية و لحزب الاستقلال ولحزب العدالة والتنمية. ولأي فاضل ديموقراطي حديث.

المأزق الثالث: ويتعلق بالوعي الجمعي الجماهيري المتذبذب بالإصلاح وعلينا الاقرار أن هناك كوابح حقيقية لإنماء هذا الوعي، لعل أساسها ضبابية المشهد السياسي وزئبقيته وكأن لا ناظم ينظمه، كمسألة التحالفات الهجينة والتي لا يستطيع المواطن العادي أحيانا فهمها وتفهمها، وكيفية التعاطي مع الأحداث/الفضائح وكأننا في بلد ديموقراطي عريق وتناسي وتبخيس إجراءات إعادة التوازن الاجتماعي، وقصور في فهم الإكراهات الهيكلية … بالمقابل على السياسي أن يتصف بالواقعية السياسية وأن يبرز حدود الممكن وأن يخاطب العقول.

يبرز أثر الأصوات الغير مسجلة وأثر الأصوات الملغاة وأثر الأصوات المقاطعة، ولا يمكننا إيمانا منا بالديموقراطية وحرية الرأي إلا احترام تلك الأصوات… لكن يحق لنا التساؤل عن أسسها وأسبابها…

هل نعاني من ضعف في التربية على الاختيار؟

هل نحن ضحايا تمثلاننا عن الساسة والسياسين؟

هل سنبقى ننظر إلى المشاركة السياسية كفرض كفاية؟

ومما لا ينتبه إليه الكثير من المقاطعين أن الاستقرار السياسي الذي يستتبعه الاستقرار الأمني و الاقتصادي والاجتماعي هو في الأساس في استمرارية المؤسسات، في دورية الاستحقاقات الانتخابية، وأن حتى من اختار المقاطعة عقيدة ومبدأ يتنعم بنعم الخيار الديموقراطي، وأن المقاطعة لا تعدو أن تكون له كشعار سند الوجود، بمنطق “أنا أقاطع إذن أنا موجود بل وأنا متميز في الوجود” ولكن وهو يختار المقاطعة لا يعتزل الكلام في السياسة بل يوجه سهام النقد للأجود وللأقدر على الإصلاح فتحقيق حلمه لن يكون إلا بالقضاء وتسفيه النقطة المضيئة في واقعه.

يمكن القول ختاما أنه لن يكون هناك انتقال ديموقراطي حقيقي بدون تجاوز تلك المآزق السياسية التي نتخبط فيها. ففي جميع الأحوال لا نريد أن نمكث في المنزلة بين المنزلتين. نريد العبور.

 

 

 

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق